محمد العصفوري - مصر
الفستان
عاد صوتها يرن في أذنيه من جديد: "بسمة كبرت وتحتاج لفستان."
أعرف أنها كبرت. وكان لا بد لها أن تكبر. آه يا ابنتي، آه يا بسمة. لكم يحبك أبوك ويعاني من أجلك!
أخذ ينظر في تردد إلى الملابس ذات الألوان الخاطفة على الجانبين. يعرفون كيف يسيلون لعاب المرأة بهذه الملابس. ألا يدركون كم يعاني الآباء من جراء ذلك؟
ومن جديد عادت الكلمات قوية صارخة:
"بسمة كبرت وتحتاج لفستان."
"أعرف ذلك. ولكن من أين لي بثمنه؟"
ألا تعرف زوجتي ثمن هذه الفساتين؟ تباً لها، إنها ما زالت تحيا في عصور ما قبل التاريخ. تتصور كل شيء بسيطا وسهلا.
كانت النساء يرحن ويجئن في جلبة وكأنها مظاهرة. الكل يشتري مظهره. أما هو فكانت نظرة واحدة إليه تكشف حالة من فقر وفاقة، وهو لا يهتم كثيرا بهذا الأمر. المهم بسمة: زهرته اليانعة، ابنته التي طال غيابها، حتى رزقه الله بها منذ عشر سنوات، فكأن روحا جديدة نبتت داخله.
في شرود وضع يده على جيبه، وأفاق على الصوت يهزه من جديد:
"بسمة كبرت وتحتاج لفستان."
الرحمة يا أم بسمة. أنت هكذا تذبحينني بسكين. أنا لا أطيق أن أرفض طلبا لبسمة.
كان ما معه لا يناسب إطلاقا مع ما عرض من أثمان. كادت الدموع تفر من عينيه. كيف يعود الآن إلى البيت؟ لا شك أنها تنتظره. بل كان يتخيلها وهي تقول لبسمة: "لقد ذهب أبوك لشراء الفستان."
وتقفز صورة ابنته البريئة فجأة إلى خياله المرهق، فتغرورق عيناه بالدموع. ولكن كيف؟ أيقترض؟ ومن أين له بالسداد؟ الفستان يحتاج إلى مال لا يأتي إلا بعد أيام متواصلة من العمل، والأمر لم يعد يحتاج أي تأجيل.
نظر إلى فوق. لا شك أن الله يراه ويسمعه. عاد ببصره إلى الأرض. لله حكمة في خلقه هكذا فقيرا معدما. هذه المرة كان الصوت ضجيجا مفزعا:
"بسمة كبرت وتحتاج لفستان."
أعرف يا امرأة. أعرف والله أنها كبرت. ولا بد لها أن تكبر.
هذه المرة بدأ القلق يزحف إلى نفسه، واليأس يجتاح كيانه، ولا يدري كيف يتصرف.
دخل أحد المحال يتطلع في يأس إلى ما عرض. قفزت صورة بسمة فجأة إلى ذهنه وهي ترتدي الفستان المعلق. كانت آية في الجمال والبراءة وهي تتقافز فرحا بالفستان الجديد. ابتلعه الهم. اقترب منه البائع وعليه ابتسامة تجارية يجيد رسمها.
"تفضل أخي. المدير يبغاك."
نظر في دهشة إلى البائع الذي قاده في سعادة إلى المدير. وقف المدير ماداً يده:
"ألف مبروك. أنت الزبون رقم 1000. ولذلك لك هدية من المحل."
نظر الرجل في دهشة إلى المدير الذي نادى البائع قائلا:
"له أن يشتري ما قيمته 500 ريال هدية." ثم نظر بابتسامة إليه:
"ألف مبروك."
ولأول مرة منذ أن خرج من البيت يشعر بحلاوة في حلقه، وسمو في روحه، وشيء أشبه بالنسيم يسري في صدره.
ولما عاد الصوت يزمجر في غلظة: "بسمة كبرت وتحتاج لفستان،" أجاب: "نعم بسمة كبرت، ويجب أن ترتدي فستانا جديدا."
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ