الهـادي عجب الدور - السودان
دموع الأبجدية ورائحة السافنا
هنالك اللوحة أبدية. هنالك القصة طويلة ومنسية. هنالك الدمعة أغنية. هنالك ألف أنشودة بالدموع مسقية. هنالك حليمة، ومريم، وبنات الحلة، بملامح رقصة ريفية. هكذا كانت الأرض السمراء تضم الأحباب. آه، وألف آه. انطفأت شمعة الحياة في كل العيون بوجوم وسكون لتبدأ من جديد طواحين الألم.
تحت حبات الرمل البرونزي المترع بالذكريات البعيدة، ومع إشراقات مطر التضحيات وابتسامات الشمعة الملبدة بدموعها القديمة الجديدة الناعمة، نعم لقد أسدلت السماء ستارها في ليل طويل ملقح بالشجون والحنين والصدى، و... و... و...
كل شيء تلاشى تحت وسادة الشمس المسافرة في قاع البحر، ووراء الأمواج العاتية، وفي الغربة البعيدة وشهقات المهجر الموحش. ضاعت ملامح النشيد في أطياف أغنية تسربت بعيدا في رائحة الشلالات المضطربة، بلطف وسكون، وتدثرت بفقاقيع النيل القديم، والرياح الدافئة غمرتنا بالدموع السخية الساخنة، تلك الدموع: دموع النيل الباردة، والمشهد متعرج بالصمت والهجير والدفء. هنالك في الذاكرة البعيدة دفئ النيل والتأملات البكر. آه.
منظر رائع ينام في ذاكرة الحقول والبراري البعيدة، وأطفال القرى المرحون يوقدون ألف شمعة وسط الطريق. ببطء والخريف ينام في عيون الجميع سنابل وقبلة ممزوجة بشوق الحبيبة الأبدية.
تلك رائحة الأمس المرهف بدعابات الوطن المسرج سرا وجهرا في أسداف السافنا، حيث تبض الشمس عسلا وأنوارا من لبن ورحيق، وتتمرجح على حبال النيل الذهبية، والجبال الزرق المحفوفة الدخان، والغابات الخضراء المسكونة بالأمان، والأنامل السمراء المنقوشة بالحنان. آه. وآه.
كل شيء في ذاكرة القرية البعيدة النائمة على ضفاف مهجتي يختزن لون الشمس ورائحة الأبنوس بتجل وحبور وصدى الأنغام ينساب دافئا في قرى دارفور البعيدة، المعروشة بالرمال والصبر والتضحيات والسهول المبرقعة بالرصاص. ما أتعس لحن التشرد في قاع الخريطة وأكوام الرمال الثقيلة! وما أحلى النوم على الأرصفة عندما تغنى عصفورتنا البيضاء بعيدا عن الجدران! ليس لنا الآن مزمار نغنى به. آه.
القصة طويلة، تتلوى في ضلوعنا، والكلمات سافرت عبر موكب الخريف ورائحة المطر المجندل صفحة في سماوات كل عصفور، العصفور خرج من لب الحروف وقاموس الأبجدية، وأطفال القرية ما زالوا يتعلمون الحرف الأبجدي من صدمة البندقة على ظلال أشجار المانجو والباباى والدليب. كل أغنية هنا قصة وألف نشيد. وعندما باضت عصفورتنا على رموش القرى المرهقة المرتعشة كتب في عمق جراحنا أن هذا اليوم عيد.
نعم القصة طويلة لكنها موعودة بالخريف والمطر والشجون والحنين والسكون والصلوات لجمال اللوحة الأبدية المنقوشة بقبلات حبيباتنا الرائعات. وألف صوت رخيم يتفرهد كالورد في ذمة العاشقين ودموع الشموع الدافئة العطرة، بذكريات طفولة الموعد نقشت على محرابنا القديم العيد السعيد. نعم الموعد جميل من حيث سافرت الأشياء، ومن حيث ولدت القصائد من رحم القرية الأم. نعم، الأم البعيدة هنالك في أجواء السافنا، وقداسة الوطن الجديد. نعم، الجديد بحفاوة المشهد.
لقد تعلمنا الغناء مثلما ولدنا يوما موشحين بالبكاء. هي صرخة الحياة. ولنا موعد مع رائحة المطر في السافنا وفى الجروف البعيدة وفى السهول المحفورة في نبض كلماتنا و(رائحة الدعاش). هي القصة التي كتبت برموش جداتنا في ميثاق الشرف. هي القبلة التي منحننا إياها حبيباتنا خبزة نـقتات منها قصائدنا المسافرة دوما في القاع وغربتنا البعيدة بين الجدران.
كل شيء اليوم في مدن بلادي الضبابية مسجل في دفتر السافنا بقساوة المشهد. لم نتعود الوحل تحت طين الأبجدية وشطحات اليائسين، ولم نتوسل أحدا بصلواتنا ليهدينا بهجة العيد وقبلة الفرحة وطعم النشيد. لم نولد صغارا بحجم الخيانة، ولم نولد جنرالات كبارا لنعكر أغنيات القرية بالبارود والسياط المسمومة. القصة طويلة. القصة حزينة. القصة رائعة، لأنها تغنى بصمود، لأنها تحلم بالخريف والحب والسكون والفرحة وبالنشيد. إنها تتموسق من جديد نسمة باردة في قمة هجير الصيف. مازلنا نحلم برائحة المطر وصبر أهل القرى الطويل. والحلم ما زال نبضا يسقى هذا العمر المديد. في الحقول الواسعة الخضراء في الجبال الرائعة ودهشة المنظر. والحلم جميل. مثل الخريف هنالك في السافنا.
في دارفور البعيدة. البعيدة. البعيدة. انتهى شكل الزمن لوحة مكسورة وحكايات مهجورة بكل اللغات والألوان والأشجان. وبكى الحالمون المسافرون دوما على ظلال مدينتنا الخرساء المسرجة بالسراب، والموشحة بالدخان الشاحب، والدموع المثقوبة بالألم والذكريات المبرقعة براحة البارود، وأنات الجياع المتضورين على هامش الحروف يتفيؤون بالصمت والحسرات العميقة، ينتظرون قطار الأطياف القادمة من شكل الزمن الإهليجي، ووهج الأبجدية من وراء السراديب.
والليل الموحش اغلق أبوابه تحت سجع النجوم البعيدة الملبدة بالدموع، الملبدة بسهاد الجراح المسكونة بالصقيع. والرياح الممشوقة برائحة الغربة تتقفى آثار النظرات التائه وسط جبال الضباب الوعرة. وهدير البحر الهائج من أعماقه يخترق ذاكرة الأحلام، والناس هنالك على السفوح والسهول الواسعة يرحلون. يبكون. يتمازجون. يرتعدون. يصمتون. ينتظرون صلوات المتضرعين. وكل شيء هنالك موعود بالفرحة والخرافة. نعم، وكل شيء هنالك لعق مرارة المشهد وبؤس الأناشيد وتجرع الأحزان من جديد.
وصمتت القرى المتناثرة على السفح وعلى السهول الواسعة التي لم ترتو سوى من رائحة البارود والسنة الحريق وهتافات المفجوعين. والخارطة مشوهة هذا المساء بلعاب الكلاب المسعورة ودماء الهامش المفجورة.
البئر لم تعد تسقى سوى نعاج السلطان. وحزن المكان. القصة طويلة قرأتها بالمجان. كل شيء على الهامش يبكي. وكل شيء تحت حذاء السلطان محفور داخله إنسان. و... و... المشهد طويل والحزن كبير والقتل هنالك دعوة ونفير. و... و... و...
◄ الهادي عجب الدور
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ