محمد التميمي - بريطانيا
أربع قصص قصيرة
شكرا...
اديش كان في ناسعالمفرأ تنطر ناسوتشتي الدينيويحملوا شمسيةوأنا بأيام الصحو وما حدا نطرني
كلمات سمعها بصوت فيروز لتلامس جرحا لم يندمل بعد. أطرق قليلا ليستمع للأغنية، ولكن ذكرياته أخذته بعيدا في الماضي، فتذكر المرة الوحيدة التي كان ينتظره أحد فيها تحت المطر.
كانت امرأة حسناء وكان هو صغيرها. لقد كانت أمه. انتظرته تحت المطر حتى يخرج من المدرسة. كان سعيدا جدا بوجودها، ورغم رداءة الجو إلا أنه تمنى أن تدوم هذه اللحظات للأبد.
بحث مجدداً في ذاكرته المملوؤة بالحزن. فلم يجد أي موقف أو ذكرى سعيدة لم تكن أمه فيها.
تسللت دمعة من طرف عينه اليسرى، شعر بها وهي تمشي على استحياء على خده، هاجمها بيده ليخمد أنفاسها الحرى.
تناول هاتفه النقال، اتصل برقم وقال: "أمي.."
جاءه صوت ملائكي من بعيد ليقول له: "نعم حبيبي. "
"شكرا."
= = = = =
إلى أمي الحبيبة: شكرا.
مهجور
كان يمشي وحيداً في الحديقة. البحيرة وقد هجرتها الطيور. أشجار وقد هجرت أغصانها الأوراق. حتى المقاعد المنزوية في الحديقة هجرها العشاق. حتى الأرجوحة التي كانت تشكو من كثرة العمل ومن ضجيج الأطفال حولها، أصبحت تبكي الوحدة. كل شيء حوله كان يشكو هجر محبوب أو صديق أو زائر.
أحس بضيق في صدره، نظر الى السماء فرآها وقد هجرتها الشمس لتتركها فريسة سهلة للغيوم لتغطيها وتضيف بدورها كآبة على الكآبة.
تمشى قليلاً، سمع أن المشي يخفف القلق والتوتر، لم يكن قلقاً ولم يكن متوتراً، بل كان حزيناً فقد كان كما هذه الحديقة. كان مهجوراً، فلقد تركته لتترك قلبه مليئاً بالحزن، كقصر هجره ساكنوه لتسكنه الغربان.
تعبت قدماه من حمل هذا القلب المثقل بالأحزان ومن هذا العقل المثقل بالذكريات. استقر به المقام ليجلس على مقعد حديدي بجانب البحيرة. نظر إلى الماء فرآه يتخبط بفعل رياح باردة.
تذكر نفسه، كيف تلاطمت بها أمواج الحب والاشتياق والحنين قبل أن ترسو بشواطئ الفراق والحزن.
رفع رأسه ليبعد نظره عن البحيرة. جعله يبحر في المدينة الممتدة أمامه كبحر بلا نهاية. أحس ببرد يغزو جسده المنهك، لملم ذكرياته وأعادها الى رأسه، لملم جراحه ووضعها في قلبه، قام وترك الكرسي الحديدي خلفه وحيداً ومضى.
صورة
يقف تحت المطر ينتظر الحافة ليستقلها إلى الجامعة، حقيبة معلقة على كتفه تحتوي بعض الأوراق والكتب، وصورة.
صورة لفتاة لطالما أحبها، لفتاة شاركته أحلامه وأوهامه، كان يريد خطبتها لكن أهله أصروا عليه أن يسافر ليكمل تعليمه، كان يعشق التعلم تماماً كعشقه لهذه الفتاة.
حانت ساعة الفراق، كان يقف يومها في مكان لقائهما المعتاد، كان قلبه يعتصر ألماً. ذهب قبل الموعد بساعة ليحضر جملة "مناسبة" للوداع، أصر عليها أن تأتي وتجلب صورة لها. لم تعلم لماذا ولكنها كانت سعيدة بهذا الطلب فجلبت له أحسن صورها وأكثرها جمالا.
تحادثا قليلا بأحاديث العشاق، تبادلا النظرات الخجولة والابتسامات الخفيفة.
صمت فجأة. مرت ثوان قليلة دون أن يتكلم أحد، أحس أنها الفرصة المناسبة لإلقاء القنبلة. أخذ نفساً عميقاً وحبسه في صدره لكي يساعده على الكلام.
أراد التكلم ولكن عبثاً، فقد اختنقت كلماته وتلاشت قبل أن تخرج على شفتيه. حاول مرارا ولكن عبثا كانت تذهب محاولاته.
ولكن العشاق يشعرون ببعض، نظرت إليه بعينين يحلمان بمستقبل مع العاشق وفي داخلها قلق على هذا العاشق. يا ترى ما يخفي في قلبه الحزين؟
فاجأته بسؤال صعب ولكن أراحه لبعض الوقت.
سألته: "شو في؟ احكيلي."
ترقرقت الدمعة في عينيه، أراد أن يخفيها بيديه، ولكنها هربت منه وقفزت إلى خده لتحرقه بنارها.
طأطأ رأسه ووضع يديه بين رجليه كمن تلقى من الأستاذ علقة لا تنسى وقال بصوت لا تميز فيه الكلمات من الشحرجة: "بدي أسافر عشان أكمل دراستي."
وقع الخبر عليها كرصاصة اخترقت صدرها لتفتك بقلبها بلا رحمة. توقف دمها عن السريان في عروقها. نشفت دموعها التي لطالما استعانت بهن أيام المحن. لم تتكلم. بقيت متصنمة كأنها تمثال موجود على كرسي الحديقة منذ القدم.
أما هو فلم يستطع أن يرفع رأسه لينظر إلى وجهها الذي لطالما أحب النظر إليه، كان خجلا، خائفا منها. استمرت ثواني الصمت طويلا كأنها سنوات.
انتشله من ذكرياته صوت الحافلة، حان موعد الذهاب إلى الجامعة، فتح حقيبته، تأكد أن الصورة في مكانها، تحسسها، أغلق الحقيبة، واستقل الحافلة.
بيانو
أصبح يتخذها عادة له، الجلوس وحيدا على طاولة بيضاء والاستماع لصوت بيانو يعزف مقطوعة حزينة من احدى السمفونيات.
كان صوت البيانو الحزين يذكره بماضيه، فبعد أن كان لا يستطيع الجلوس وحيدا من كثرة الأصدقاء والأصحاب والمعارف، أصبح لا يستطيع الجلوس إلا وحيدا.
لقد غادر حياته الصاخبة المليئة بالأحداث والأشخاص، ليحط رحلة في منطقة لا يعرفه فيها أحد سوى الوحدة، فأصبحت رفيقته الدائمة.
ارجعه صوت البيانو إلى الصالة التي كان يجلس فيها، نظر حوله فلم يجد من أحد يجلس وحيدا مثله سوى عازف البيانو، هما: هو وعازف البيانو في الحقيقة لم يكونا وحيدين، فعازف البيانو، اتخذ البيانو رفيقا له وهو اتخذ القلم والورقة والأحزان اضافة إلى صديقته الجديدة: الوحدة.
انتهى عازف البيانو من عزف مقطوعته، صفق له بحرارة، أكثر من باقي الحاضرين، كأنه يقول له: "شكرا على هذه الجولة في الماضي".
جمع حاجياته ووضعها في الحقيبة وغادر.
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
8 مشاركة منتدى
أربع قصص قصيرة, أشواق مليباري/ السعودية | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 - 16:51 1
شكرا لك أيها الكاتب المبدع.
أربع قصص، في أربع زوايا من حياتنا، كلها تنبض بالذكرى والحنين، وبعض الألم الذي يلامس جراحنا...أحسنت
كل عام و أنت بخير
1. أربع قصص قصيرة, 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011, 21:30, ::::: محمد التميمي
وكل عام وأنت بخير وأعاده الله عليكِ باليمن والبركات.
أشكركِ على تعليقك الجميل وتشجيعك لي وان شاء الله أكن عند حسن الظن في الاعداد القادمة.
أربع قصص قصيرة, Princess Tamimi | 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 - 12:01 2
أبدعت يا دكتور محمد في لمس حروفك لمشاعرنا..
رد على "صورة":
أيُّ حاضر هذا أراد أن يشق طريقه للمستقبل فخارت قواه ليصبح ماض لنا...
أي قرار تختار وأي إذعان بالبعد...
أهذه هي النهاية الصحيحة؟
إذا كان هذا قرارك فما جوابي إلا التطبيق لكن..
إذا يوماً عرج عليكَ وبدا بيننا حديث أُسْدِلتْ ستائره في وقت ما قد مضى وأصبح عقيماً، وعَتِبتَ فيه قلبكَ بعتاب طاب لي سماعه، وخاطبتني بِلغةٍ رقَّت لها جوارحي، سائلاً وعاتباً، لائماً أو مدّعياً أنه قراري.. فاعذرني حينها...
فأول كلمة سَتنظِقُ بها شفتاي: "أتذكر؟"، "أتذكر يوماً حين كنتَ أناديكَ بصوتٍ شق بصوته صدر آذانه الحنين... أصَمَّ به مسمع كل من سمعه، أعمى به كل من قرأ حروفه...
أينَ كنتَ حينها.. حين تقلبتُ ليلي حيرى؟
1. أربع قصص قصيرة, 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011, 21:35, ::::: محمد التميمي
كل عام وأنتِ بألف خير وشكراً لك على الاطراء.
بالنسبة لردك فهو جميل لكنه يؤلم... كلمات رائعة يجب وضعها في قصة ونشرها في هذه المجلة المتميزة ... أنصحك بالتجربة وسأكون أول المعجبين.
2. أربع قصص قصيرة, 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2011, 15:19
كلماتك تفوق كلماتي سحراً وتأثيراً.. كل عام وأنتَ الكاتب المبدع
أربع قصص قصيرة, موسى أبو رياش / الأردن | 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 - 09:38 3
جميل هذا البوح وهذه المشاعر التي أنضحتها الوحدة والغربة على نار هادئة فتدفقت من قلب رقيق حساس لتلامس قلوباً تتفاعل مع المشاعر الإنسانية التي تمنح المرء الحياة، والتي بدونها يتحول المرء إلى جماد وإن تحرك وأكل وشرب!
قصص جميلة أخي محمد ... أسعدتنا وإن أشجيتنا!
1. أربع قصص قصيرة, 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2011, 16:00, ::::: محمد التميمي
الاستاذ موسى
كلماتك أرق من صبا بردى وتعليقك لامس هذه المشاعر الانساسية داخلي واضاء الفرح داخل روحي.
الوحدة والغربة رفيقان يخرجان ما في داخل النفس من مشاعر وأفكار ويصقلان الشخصية ... ولكن بقليل من المرارة والقسوة.
أربع قصص قصيرة, Khaldoon Ziad Saqallah | 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 - 17:09 4
قصص ذات طابع جذاب جداً
1. أربع قصص قصيرة, 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2011, 07:42, ::::: محمد التميمي
شكرا على التشجيع والاطراء يا خلدون
أربع قصص قصيرة, إبراهيم يوسف | 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 06:34 5
محمد التميمي
أربع قصص قصيرة
شكراً..
تخْمينْ راحِتْ حلْوِة الحِلوينْ
وما ضَلْ في غَيْرِ الحَبَقْ
تخْمينْ هالقلبِ انْطَبَقْ
وما عادْ يِرْجَعْلي بَعْدْ تخْمينْ
ألبحرُ والجو والمرافىءُ والموانىءُ والمطارات.. لنا عندَها ثارات، والمدنيَّة يا صديقي قلبُها من حديد، صارتْ تتحكَّمُ فيها العجلةُ والنقَّال، والعودة إلى الماضي أمست ضرباً من المستحيل..! فعوِّدْ نفسكَ، أو استلحِقْها وخلِّصْها من غربةٍ أشعَلتْ في القلبِ الحنين.
1. أربع قصص قصيرة, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 06:55, ::::: محمد التميمي
استاذ ابراهيم
صدقت في كلامك، وفي مشاعرك ايضاً. الحمدلله انني الآن في آخر أيام غربتي وأعد الساعات للعودة فأنا احن إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي
وقبل كل هذا احن الى أمي...
أربع قصص قصيرة, دعاء | 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 12:10 6
السلام عليكم
شكرا ... أقصد شكرا لك يا محمد على هذا الإبداع ... وشكرا لك لأنها ليست المرة الأولى التي تمر بها كلماتك علي فقد سمعتها منك قبل ذلك ولا أخفيك سرا فأنا أشعر أنني مميزة لأنك قرأتها علينا لدرجة اني أود القول بصوت مرتفع أنا أعرف محمدا .. وأعرف قصصه هذه قبل الكثيرين ..
في الحقيقة أنت المميز يا أخي ... وكلماتك أيضا تملك من يقرؤها ... ولكثرة ما لدي من كلام أختصر بأن أقول:إنها حقا تعجبني ...
بارك الله فيك
1. أربع قصص قصيرة, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 12:50, ::::: محمد التميمي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
دعاء يا ناقدتي الادبية ومشجعتي للإستمرار. وانا اريد ان اقول بصوت عالٍ ان تشجيعكم لي عندما قرأت عليكم هذه القصص لأول مرة هو ما جعلني امضي قدماً. ايضاً دعيني اشكرك على الملأ على ما قدمته لي من نصائح مما جعل القصص تخرج بهذا الشكل.
أربع قصص قصيرة, هدى الدهان | 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 02:41 7
شكرا
عجيبة هذه الفيروز ...دوما هناك .في طفولتنا نسمعها لاننا نصحو على صوتها في البيت و اهلنا يستعجلوننا الذهاب الى المدرسة و عندما نكبر تاخذ منحى اخر حيث تصبح لكلماتها معنى او تطبيبا للجرح ..انهاكالام ...دائما هناك .
مهجور
الافضل للمتالم ان يترك الكرسي فارغا و يهجر نفسه هناك من ان يعدم بهذا الكرسي وهو حي . صعبة مواجهة النفس
1. أربع قصص قصيرة, 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 04:46, ::::: محمد التميمي
فيروز كلامها له معانٍ كثيرة وصوتها له وقع آخر ... شكرا على التعليق الذي يفضي جمالا على القصة.
_مهجور كل من فقد من يحب، وضائع كل من فقد بوصلة القلب
أربع قصص قصيرة, هدى الدهان | 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 - 03:27 8
لم يعد الكتاب و الموسيقى خير جليس في هذا الزمان بل اصبحا هما و من يجالسهما واحد وهما كاتما الاسرار و يغنيانك عن الصاحب الحاضر جسدا و غائب ذهنا الا حين يكون الحديث له وعنه.
1. أربع قصص قصيرة, 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011, 04:48, ::::: محمد التميمي
الموسيقى بوح القلب والكتاب كلمات العقل ... وهما معا يشكلان النفس.
تعليق رائع ... أشكركِ عليه