عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 1: 1-12 » العدد 11: 2007/04 » اصمتوا، ودعوا الطيور تغني: إعادة تعريف بكتاب قول يا طير

جابر سليمان - لبنان

اصمتوا، ودعوا الطيور تغني: إعادة تعريف بكتاب قول يا طير

قضية كتاب قول يا طير: فلسطين


"لا شك لديّ في أن حكايات كهذه ستظل تروى على ألسنة الناس ما دامت العصافير تغني." ألن دنديز (Alan Dundes)، عالم الفولكلور الأمريكي، جامعة كاليفورنيا

.

غلاف: قول يا طيرمن يستطيع أن يمنع العصافير من الغناء؟ ليس بوسع أي مخلوق أن يفعل ذلك حتى ولو كان ملك الغاب نفسه، فالغناء هو ذلك الجوهر الحيّ الساطع في جمال الحقول مع كل إشراقة شمس، وهو سر الوجود منذ بدء الخليقة. أقول هذا بمناسبة قرار يتعلق بكتاب: قول يا طير في شباط-فبراير الماضي، وقضى بسحبه من المكتبات المدرسية في بعض مناطق فلسطين بعد أن كان قد عمم على تلك المكتبات منذ عام 2003. وجاء القرار تحت ذريعة أن في بعض حكاياته ألفاظا "تخدش الحياء."

وكان وزير التربية في السلطة الفلسطينية ناصر الشاعر قد ألغى القرار، إثر احتجاج العديد من الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين، معتبراً أن ما حدث لم يكن أكثر من "زوبعة في فنجان."

وعلى الرغم من هدوء الزوبعة، أجدني معنياً بالتوقف عند ما حدث لسببين أساسيين:

السبب الأول موضوعي، كوني كفرد أنتمي إلى تلك الثقافة الأصيلة التي تعبر عنها حكايات هذا الكتاب. والثاني محض ذاتي لأنني عشت مع حكاياته لما يزيد عن السنة والنصف، وهي فترة عملي والزميل الدكتور إبراهيم مهوي في إعداد الطبعة العربية من هذا الكتاب. عملنا على استرجاع تلك الحكايات من لغة ليست لغتها إلى حضن الضاد الدافئ، وأعدنا الروح إليها عبر نقلها إلى اللهجة الشعبية الفلسطينية الآسرة التي رويت بها أصلاً، وذلك بعد طول اغتراب. ولعلني أقرّ بأن هذا العمل كان من أحبّ وأدفأ وأجمل ما قمت به من أعمال في عالم البحث والكتابة.

كتاب قول يا طير: غلاف داخليوربما أضيف سبباً ثالثاً يدعوني إلى هذه الكتابة المتأخرة نسبياً، ويتلخص هذا السبب في ضرورة إعادة التعريف بهذا الكتاب بعد أن سلطت وسائل الإعلام على جوانب دون أخرى من هذا العمل الرصين بامتياز وحاولت اختزاله إلى مجرّد كتاب مدرسي.

فما هي حكاية كتاب الحكايات هذا؟ وما هي أهميته العلمية والوطنية؟

صدر هذا الكتاب أولاً باللغة الإنجليزية عام 1989 (*)، ثم نقلته إلى الفرنسية السيدة ليلى المصري عام 1997. وكان حصيلة جهود مشتركة لأستاذين كبيرين أحدهما مختص بالآداب وهو الدكتور إبراهيم مهوّي والآخر مختص في الانثربولوجيا وهو الدكتور شريف كناعنة. وبهذا فإن الكتاب كما يقدمه عالم الفولكلور الأمريكي ألن دنديز: "مزيج فذ من التفسير الاثنوغرافي والتعليق الأدبي يمنح القارئ نظرة فريدة إلى الجزئيات الدقيقة لملامح الثقافة الشعبية الفلسطينية."

تشكل حكايات عددها خمس وأربعون المادة الرئيسية للكتاب. وهذه الحكايات لم تقدم من دون دراسة تحليلية شاملة وموسعة، إذ يحتوي الكتاب بالإضافة إلى الحكايات أربـعة أنواع من الدراسة التحليلية. وهي المقدمة والحواشي والتعقيبات وتحليل أنماط الحكاية الشعبية. وكل منها تسلط الضوء على الحكايات من زوايا مختلفة:

المقدمة، تضع الحكايات في سياقها الثقافي والاجتماعي وتحدد علاقة هذا النوع من القصّ الشعبي بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها؛

الحواشي، وتعني بالأبعاد الاثنوغرافية واللغوية، إذ توضح معاني المفردات والمصطلحات الخاصة باللهجة الفلسطينية، فضلاً عن تزويد القارئ بالمعلومات المتعلقة بالعادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية الفلسطينية، كما تحيل القارئ المتخصص إلى بعض المراجع والدراسات ذات الصلة؛

التعقيبات، وهي تلي كل مجموعة من الحكايات التي قسمت إلى مجموعات حسب مضمونها الأساسي (الأفراد، العائلة، المجتمع، البيئة، الكون). وتتعامل هذه التعقيبات مع نصوص الحكايات بوصفها نصوصاً أدبية. وتعتمد منطق النقد الأدبي في محاولة للوصول إلى المعاني التي تربط مضمون الحكايات بالواقع الاجتماعي؛

تحليل أنماط الحكاية، إذ تعتمد هذه الدراسة التحليلية منهجاً خاصاً في تصنيف هذه الحكايات وهو المنهج "الجغرافي/التاريخي،" المعروف بمنهج "أرنه–تومبسون" نسبة إلى عالم الفولكلور الفنلندي (Antti Arne) وزميله الأمريكي (Stith Thompson). ويقوم هذا المنهج على تصنيف الحكايات إلى أنماط (Types) ووحدات سردية (Motifs) على أساس التماثل وأوجه الشبه بين مختلف الحكايات عبر الحدود الجغرافية للثقافات.

على سبيل المثال، إن حكاية "أبو اللبابيد" في التراث الشعبي الفلسطيني (أنظر ص 125) هي المعادل لحكاية سندريلا في التراث الشعبي العالمي. وهي تنتمي إلى النمط (B510) حسب التصنيف العالمي المذكور. ومن الحكايات المماثلة لها في فلسطين حكاية "خشيشبون"؛ وفي سوريا حكاية "لبّاد"؛ وفي العراق حكاية "الملك والخاتم" و"طنجرة من خشب"؛ وفي السودان حكاية "فاطمة السمحة" و"فاطمة ذات الخلخال"؛ وهكذا (أنظر ص 318).

هذه الدراسة الشاملة والموسعة جعلت من الكتاب في طبعته الإنجليزية مرجعاً أساسياً لتدريس أنثروبولوجيا "الشرق الأوسط" وفولكلوره ومجتمعه وأدبه في الجامعات الأوروبية والأمريكية. كما جعلت منه "مدخلاً مرموقاً إلى روح الثقافة الفلسطينية العربية ونمط رؤيتها للعالم،" على حد تعبير ألن دنديز.

بعد ذلك، كان من الطبيعي أن يصدر هذا الكتاب في طبعة عربية لجعل هذه الحكايات والثقافة التي تنتمي إليها في متناول القراء العرب، بوصفها جزءاً من الثقافة العربية وتقاليد القصص الشعبي العربي. وقد قمت وزميلي الدكتور إبراهيم بهذا العمل الصعب والشيّق في آن.

بداية عدنا إلى النصوص المسجلة شفوياً على الأشرطة ونقلناها كتابة بعد أن دققناها بحسب اللهجة الفلسطينية الدارجة التي رواها بها الرواة، والتي تختلف في طريقة نطقها من منطقة لأخرى، بل ومن قرية لقرية مجاورة. وعمدنا في تشكيل النص وإملاء مفردات اللهجة الدارجة إلى مقاربة الفصحى قدر الإمكان، من دون أن نطمس طريقة لفظها التي ترتبط بدون شك بجماليات الأسلوب والإيقاع السردي. فاللهجة الدارجة تتحلى بقدرة لغوية وتعبيرية وخيال أدبي وأسلوب سردي لا تقل جمالاً عما يتحلى به أدب الفصحى (أنظر: مقدمة الطبعة العربية، ص XIXV – XIX).

ولم يكن قصدنا من وراء وضع الحكايات باللهجة الدارجة تقديم دراسة في علمي اللغويات والصوتيات هي بالطبع خارج نطاق اختصاصنا، بل كان همنا التركيز على جماليات النص وأسلوبه السردي ومعانيه وأبعاده الثقافية. ولكن عملنا هذا ربما قد يخدم أغراض من تهمهم الدراسات اللغوية. وفي الطبعة العربية قمنا بحذف العديد من الهوامش المتعلقة ببعض المعلومات الاثنوغرافية والفولكلورية الموجهة إلى القارئ الأجنبي أصلاً. وأضفنا في الوقت نفسه هوامش جديدة موجهة إلى القارئ العربي وتتعلق بشرح بعض مفردات اللهجة الفلسطينية الدارجة وبالعادات والتقاليد والمعتقدات الفلسطينية ولكن من دون إفراط.

وبهذا أصبحت الطبعة العربية من الكتاب بعد إعادة نصوص الحكايات إلى اللهجة الدارجة ومراجعتها وتحقيقها، وبعد ترجمة أقسامه الأخرى، كتاباً عربياً جديداً بثلاثة مؤلفين أرجعت فيه الحكايات إلى لغتها الأصلية.

تخاطب الطبعة العربية من الكتاب صنفين من القراء هما القارئ العادي الذي يهمه الاطلاع على هذا اللون من القصص الشعبي الشيق وعلى المعلومات الاثنوغرافية والفولكلورية والأدبية التي تقدمها أقسام الكتاب الأخرى؛ والقارئ المتخصص في ميادين الفولكلور والانثروبولوجيا والأدب الشعبي. ولعلّ قسم "تحليل أنماط الحكاية" هو أهم ما يقدمه الكتاب لهذا القارئ. إن نظام "أرنه–تومبسون" الذي تم نقله إلى العربية لأول مرة في هذه الطبعة العربية، ومن ثم جرى تطبيقه على الحكايات الشعبية الفلسطينية الواردة في الكتاب، سمح بربط الفولكلور الفلسطيني بالتراث الفولكلوري العربي الأوسع ومن ثم ربطه بالتراث الإنساني الأشمل.

وتشكل ترجمة ذلك القسم أهمية بالغة لدراسي الأدب الشعبي العربي من الباحثين وطلاب الدراسات العليا في الجامعات ومراكز البحث العربية. ولعلها المرة الأولى التي تتاح فيها لهؤلاء الاطلاع بلغتهم الأم على المنهج الجغرافي التاريخي المتبع في تصنيف الحكاية الشعبية.

وفي هذا الخصوص لا بد من الإشارة إلى ما قام به عالم الفولكلور المصري د. حسن الشامي الذي نشر عام 1995 كتاباً عن التراث الشعبي العربي اتبع فيه منهج "تومبسون". لكن هذا الكتاب وضع بالإنجليزية ولم يترجم إلى العربية بعد، الأمر الذي يضفي أهمية خاصة لما قمنا به من عمل في نقل هذا المنهج إلى اللغة العربية وتطبيقه عملياً على التراث الشعبي الفلسطيني والعربي. وخلاصة القول أن هذا الكتاب في طبعته العربية يقدم أسساً منهجية وعلمية لدراسة الحكاية الشعبية الفلسطينية والعربية على حد سواء.

إن المادة الفولكلورية والاثنوغرافية المتضمنة في أقسام هذا الكتاب توضح مدى تكامل الثقافة الفلسطينية مع الثقافة العربية من جهة، ومدى خصوصيتها وارتباطها العضوي بالأرض وبالحيّز الجغرافي الذي نشأت فيه من جهة أخرى. وهذا ما يُكسب الكتاب أهمية وطنية وقومية، إذ أن من شأنه الإسهام في صون الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني وتعزيز هوية فلسطين الثقافية، وبصورة خاصة لدى الأجيال الناشئة. وتزداد هذه الأهمية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار واقع الاحتلال الإسرائيلي/الاستيطاني الذي عاشته تلك الأجيال وما يرافقه من محاولات الاجتثاث القسري للمجتمع الفلاحي الفلسطيني وتقاليده، وكذلك واقع الشتات وما ينجم عنه من اغتراب عن تقاليد هذا المجتمع ومخزونه الثقافي.

وفي هذا الصدد يقول ألن دنديز في تقديمه للطبعة الإنجليزية من الكتاب: "هناك مساحة من العالم اسمها فلسطين، حين كان –ولا يزال- لسكانها العرب ثقافة تخصم وتميزهم من غيرهم من الشعوب. إن ما يحافظ عليه هذا الكتاب ببراعة، ومن خلال حكاياته الساحرة، هو تلك الثقافية...وهي كنتاج شفوي للروح الخلاقة الكامنة في العقل الإنساني، ملك للإنسانية جمعاء وليس فقط لهذه المجموعة البشرية من الفلسطينيين العرب."

بعد كل هذا نقول لذوي الرؤية الإنسانية الضيقة والبصيرة الوطنية المحدودة: "اصمتوا، ودعوا العصافير تغني."


(*) قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية هو عنوان الطبعة العربية من كتاب صدر أولاً بالإنكليزية في العام 1989 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا بعنوان:

Speak, Bird, Speak Again: Palestinian Arab Folktales

تأليف إبراهيم مهوي وشريف كناعنة. وقد حقق الطبعة العربية الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت) عام 2001 كل من جابر سليمان وإبراهيم مهوي.

غلاف: قول يا طير بالإنجليزية

D 1 نيسان (أبريل) 2007     A جابر سليمان     C 0 تعليقات