نزوح نحو المدينة
نوال يوسف - الجزائر
يأسرني منظر السلحفاة البحرية أو السلحفاة الخضراء، تلك التي تكون في البحر ثم تخرج للشاطئ لتضع بيضها، فيأتي وقت ويفقس، فتجد هذا الذي فقس حديثاً يتجه للشاطئ مباشرة، الخالة "سامية" لا تختلف كثيراً عن السلحفاة الخضراء التي تترك هذه الأخيرة صغارها يواجهون الشاطئ حتى قبل أن يعتدل قوامهم بسبب التقوقع في البيضة والأخرى تترك أطفالها يحفظون أسماء الباعة الجوالين قبل أن ينطقوا بـ "ماما" أو "بابا."
تقص لي أمي يومهما الأول الذي حضرت فيه إلى الجزائر العاصمة قادمة من عاصمة الزيبان بسكرة. كانت ليلتها الأولى شديدة القسوة حدث فيها أن قبّلت قدم الخالة "باية" صاحبة البيت الكبير المجاور لبيتنا لتسمح لها بالنزول في إحدى غرفه لأيام ريثما تجد بيتاً يأوي طفليها.
في صباح اليوم الموالي، اتجهت لبيت الضيافة تنتظر أن تشرّف لالة باية لتتمنى لها صباحاً سعيداً. تقول أمي أن الوقوف أمام الله سبحانه وتعالى أهون من الوقوف أمام صاحبة البيت الكبير، فالخالة باية لا ينتظر منها أحد لا رحمة ولا شفقة.
تسرع سامية في الوقوف بعد أن سمعت وقع أقدام تتجه صوبها.
"صباح الخير ألاّلة، هاتيك عليك "سنيوة القهوة."
"نُضْتي بكري اليوم، هكدا تغسلي الحوايج اللي راهم في السقيفة."
"ما عليه الالّة. ما يكون إلا خاطرك."
ذكرني هذا الموقف، بزوجة خالي التي ما إن تقصد بيتها أنثى إلا وتستغلها في القيام بأعمال البيت من غسيل للملابس وجلي للأواني وتنظيف للأرضية، وعند الانتهاء من الأشغال الشاقة، تطلب منها فتح الثلاجة وإحضار طبق الزبدة وتسمح لها بوضع طبقة رقيقة على قطعة خبز مضى عليه تقريباً ثلاث سنوات، وإن حاولت المسكينة رفض هذا الكرم فتشكو تصرفها غير المهذب والدتها ونساء الحي وحتى الحي المجاور، فيتعثّر حظها، وترمي أحد أحلامها وراءها، وألاّ تدع الزواج يأخذ شيئا من تفكيرها.
أيّام سامية التي قضتها في البيت الكبير كلها مظلمة، وكشفت أنها لا تقوى إلا على الدعاء على طفليها، فتارة تطلب لهما الموت ويريحانها، وتارة تطلب أن يطالها هي بدل منهما. "لا تقل على إنسان إنه سعيد مادام على قيد الحياة" كانت مقولة لأحد الفلاسفة. وتوجد مقولة لا أدق منها، وتنطبق على مقاس حياة الخالة سامية صاحبة الملامح القاسية جدا، والتي تشعر أن وجهها أخاديد جفّ ماؤها، إلا المقولة المقتبسة منها: "لا تقل على إنسان إنه سعيد ما دامت الخالة باية على زئيرها اليومي."
الصباحات تقرّر ما سيكون عليه باقي يومنا، ولا يختلف صباح عمي مصطـفى عن صباحات زوجته سامية البئيسة، فبعدما كان إماماً في مسجد الحي الذي كان يسكنه قبل نزوحه للمدينة. أصبح سائق حافلة في الشركة الوطنية لنقل المسافرين. كان كثير الحديث مع نفسه، قليل الاهتمام بهندامه، لا يحفظ أسماء أولاده، ولا يُلاحظ أن عليه مسؤولية زوجة وطفلين، لهذا لم تمضِ الأيام التي نزلت فيها سامية في البيت الكبير إلاّ وعلا صراخ المسكينة. أما هو فلا نسمع إلا وقع طريقة خروجه من الغرفة بضرب الباب بكل قوته.
لم يكن ليختلف يوم عمي مصطفى لولا قُبلة زوجته المفاجئة هذا الصباح، مما جعله على غير العادة يحتضن طِفليه، في حين كان ينهرهما ويصرخ في وجهيهما: "ارجعوا لمّكم" وهما يلحقانه لتوديعه أثناء مغادرته الغرفة ليلتحق بالحافلة. كان يوماً جميلاً غير أن الشمس لم تكن ساطعة بل لطيفة إلى الحد الذي أقدم فيه عمي مصطفى على مداعبة جيبيه الخاليين إلا من طلبات عليه أن يحضرها وهو عائد إلى الغرفة الصغيرة من البيت الكبير.
بدأ اليوم في بيت لالّة باية بإشارة منها ألاّ أعمال تشغُل "وسط الدار" فهي تنتظر ضيوف، مما سمح لسامية التفكير في الحديث مع لالة باية بخصوص وضعها الذي لا مؤشّرات على تحسّنه، فزوجها يزحف نهاراً على الحافلة ومساءً بحثاً عن بيت يعادل عدد الفرنكات التي يحصل عليها. بعد تذمّر وارتفاع حاجب وانخفاض آخر قرّرت لالّة باية تمديدها بفترة أشغال شاقة ثانية.
لا تنسي غداً غسل ستائر المَضافة، مُرّي الآن على المطبخ وعلى يمينك حلتان فيهما السفرجل، أحضريهما لتساعديني في تحضير المربى. كانت هذه أوامر لالّة باية.
شيء من فرح هذا اليوم، كيف لا وقد تقرّر تمديد فترة إقامة العائلة البسكرية، هذا الحدث لم يمنع من حلول كارثة بحجم وفاة محمد المعروف بـ"الزيتونة" نسبة للون بشرته السمراء، كان مهذبا جدا يتألم لهذا الاسم الذي لا يليق به، يصادق الحيطان ويخشى من تربّص أولاد الحي به ورميِه بما لا يرضى أن يسمع، "طيفو" رحل أيضاً، هذا الذي كانت تعذبه أمه الخالة صفيّة بنشر فراشه المبلل كل صباح أمام أصحابه فذهب دون أن يترك مجالاً لأن يعتذر منه الجميع جراء مناداته بـ "السايش"، لم تسلم حافلة عمي مصطفى من الكارثة، فقد رجع إلى الغرفة وهو ركام، محترق الذاكرة من هول ما رأى بعد أن أوقفوه وأحرقوا خبزه الذي كان يفاخر بوجوده في قفته كل مساء عند العودة. حدث كل هذا في الخامس من أكتوبر من سنة ألف وتسع مائة وثمانية وثمانين.
استقبلته أم طفليه بغير ما ودعته: "واش طيشوك؟"
أجابها: "الحمد لله على النجاة آسامية" ثم أضاف: "هذا اللي كتبو ربي."
استسلامه هذا لربه شجّع سامية على أن تكثف من دعواتها من أجل أن يعجّل الله رفعها إليه وتلحق بمحمد وطيفو، وأن يريحها من ألم سيشتد بعد أن تحوّلت الحافلة إلى خُردة. كانت هذه الأزمة سببا في ترطيب قلب لالّة باية، فقد وافقت على أن تستأجر الغرفة للعائلة البسكريّة، لا يعني هذا إسقاط الأشغال الشاقة من قائمة التزامات الأم المسكينة.
"أبناء المدينة لم يجدوا عملاً يا السي مصطفى."
كان هذا حديث عمي السعيد ردّا على شكوى من البسكري من الأيام والشهور التي تمر دون أن يجد عملاً بعد أن استغنت عنه الشركة.
"والطفل الثالث قادم يا عمي السعيد."
أطلقها مصطفى بنفس حزين. في الطرف الآخر كانت العدوانية قد جرت مجرى الدم في سامية، كلام غير مفهوم، وصراخ على أتفه الأسباب.
ستة أعوام مضت، لم يتغيّر فيها الكثير، الغرفة لم تتناسخ، فقط فقس أطفالٌ وأطفال، وأنا الآن ألمحهم حفاة عُراة، أما الدوالي صنعت من الخالة سامية حالة مرضية نادرة. أكبر أولادها تعلّم معزوفة مطلعها
"سردين، سردين، فريشك، خمسطاش مية، خمسطاش مية."
أحد صيادي (لابيشري) كان يمنحه صندوقين من السردين يوميا ليتجوّل بهما في الأحياء ليرتزق ويبتعد عن رفاق السوء كما تقول والدته.
الخالة سامية أصبحت تهدد عمي مصطفى بهجرانه بعد أن أصبح هو والدهر عليها، كما تقول. لم يعد له من مهمّة غير أن يرمي في أحشائها ما يكدّر حياتها.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ