أميمة أحمد - الجزائر
الرفيقة، الحاجة
كانت من جميلات الضيعة، شقراء، فارعة الطول، خصرها كباقة نرجس يانعة، وبسمتها الساحرة تنزلق على ثغر كحبات الكرز، ويظهر لؤلؤ الأسنان وضاء، يثير حسد صويحباتها بجمالها الأخاذ.
حكاية سمعتها من مصادر عديدة، أم علي الفقير قالت: "كانت نسرين آية من الجمال في صباها، تقدم لخطبتها أمراء، وأثرياء كبار، فلم تقبل، وهي مدللة والدها، لا يجبرها على شيء."
وتقول أم شحدو عاشور: "في أيام اصفرار الشعير (*) جاء الضيعة غرباء، ومعهم صناديق من الصدف الحر، تحملها ثلاثة من الإبل، ويتقدمها فارس، يمتطي حصانا أشعل، لا زلت أذكر ذيله يصطفق على حدوات قوائمه الأربعة، يبدو أنها كانت جديدة لأنها تطرق الأرض بقوة، فطار الخبر مع الأطفال، أن أميرا من بلد عربي جاء يخطب نسرين، جميلة الضيعة، وكل هذه الصناديق هدايا، لا تحسب من الصداق. فانبرت ابنتها زينب تقول بغيرة غير خافية: "كل صندوق فيه شي وشويات من الذهب والحرير، والألماس…" فأسكتتها أمها حتى لا تنكشف غيرتها وغيرة ابنتها. وقد تجاوزت زينب العشرين عاما ولم يطرق بابها خاطب."
"زمان، يا زمان قل للزمان عد يا زمان،" تقولها نسرين بحسرة ومرارة، وتقص نتفا من معاناة الاغتراب، لا أهل ولا أصدقاء، كان الزوج والأبناء كل حياتها وعلى مدى عقود طويلة من الغربة .
أدهشني جمالها في الأربعين من عمرها، سبحان الله على هذا الجمال الناضج، أجمل من نضوج عنب ذاك الصيف الذي قابلتها فيه أول مرة، تربط شعرها الذهبي ذيل حصان، يتراقص كسنابل القمح على كتفيها العاريتين، ووجها ينضح شبابا، وثوبها الحديث قصير وبلا أكمام ظهر منه صدرها الناهد، وساقاها الأبيضان، وزنداها الممتلئان. ولم تنس نسرين زينتها، من أحمر الشفاه، وتظليل العينين، وصبغ أظافر كفيها، وحتى أظافر قدميها الصغيرتين، ظهرت من حذاء مفرغ كأنها نقش الحناء .
كان نداؤها المفضل لي "الرفيقة" وهي طبعا تنادي الأخريات والآخرين رفيقات ورفاق، والمثير بالأمر أن نسرين تنحدر من عائلة ثرية، لا تعرف يوما المبيت بدون عشاء، أو البيت الخالي من الطعام، أو أما تدور حول نفسها لطبخ ما يسد رمق الأبناء. نسرين ولدت في فمها ملعقة من ذهب، لذا عندما تتحدث عن الفقراء ولينين وماركس، كان الأمر يبدو مضحكا ولا شك .
في البدء كانت دهشة، كيف يشعر الأثرياء بآلام الفقراء أمثالنا؟ فقيل لنا: "هذا يسميه لينين الانسلاخ الطبقي، فيمكن للغني أن يهجر طبقته إلى طبقة الفقراء، ويمكن أيضا للفقير أن يهجر طبقته في أول فرصة تتاح له ليتسلق إلى المجتمع المخملي، وهذا نسميه الخيانة الطبقية."
غريب أمر هؤلاء المنظرين! الغني يترك طبقته فهو انسلاخ طبقي، والفقير إذا فعل خيانة. لماذا خيانة؟ أليس من حقه رسم حياته بالطريقة التي يشاء طالما نتحدث عن الحريات العامة والفردية في نظام ديموقراطي نطمح إليه؟
كنا صغارا، لم نع ذلك، نصدق الكبار، ولا نجادلهم، فهم "أفهم" منا، ولهم تجربة كبيرة، كنا نسمع حكايات الكبار، وأفواهنا مفتوحة دهشة، وهم عندما يروننا على هذا الحال يزيدون في المبالغة والتشويق، لدرجة كنا نتفاخر "كنا أمس في سهرة بحضور الرفيق الفلاني."
جرت مياه كثيرة تحت جسور الاغتراب، واكتشفنا غفلتنا، وخيبتنا، وهؤلاء الذين كنا نحسد أنفسنا بمعرفتهم، لم يكونوا أكثر من أناس عاديين، صنعت الدعاية منهم أبطالا، للأسف من كرتون، ونحن بعدما عركتنا الحياة بقدميها القاسيتين كرفس البغال، اكتشفنا عالما آخر غير الذي كنا نحلم به.
من جملة ما اكتشفنا "الرفيقة" نسرين. تفاجأت حينما التقيتها بعد سنوات طويلة. لم أعرفها للوهلة الأولى، صحيح الزمن سرق شبابها، لكن أن أراها بالحجاب، وتسبح بالله مع أنفاسها، والقرآن لا يفارقها كيفما تحركت في البيت فهذا المفاجئ بعد حياة صاخبة.
قلت مازحة: "موجة التدين في البلد انعكست على كثيرين كانوا رفاقا ماركسيين، يتباهون بالإلحاد، وشرب الخمر، والملابس العصرية..."
قاطعتني كأنها لتقنعني: "أبدا ذهبت للحج، وعند العودة أول ضيوف جاؤوا يسلمون علي، استقبلتهم بالحجاب، كانوا عائلات: نساء مع أزواجهن. لا يجوز أن أظهر عليهم عارية الرأس."
التفت حولي علني أجد ورقة صفراء سقطت من الزمن الماضي في هذه الزاوية أو تلك من البيت أو الحديقة المحيطة به، فضاعت يدي في السراب. انتهى الماضي للأبد، وأمامي الرفيقة الحاجة نسرين.
أيقظني صوتها من دهشتي: "عفوا رح قوم صلي العصر."
(*) تاريخ معتمد لدى القدامى كأيام مربعينية الشتاء (أي في كانون الثاني-يناير)، ونضوج العنب والتين، (أي فترة آب-أغسطس)، وأيام المعاصر، أي (فترة أيلول-سبتمبر).
◄ أميمة أحمد
▼ موضوعاتي