مازن الرفاعي - رومانيا
في المشفى
من نافذة المشفى الموحشة أطلت أولى نظراته بعد العملية الجراحية التي أجريت له فعانق الحياة من جديد بعد أن انزلقت به الهاوية إلى حافة الموت. الوحشة ولا شيء سواها في تلك المقبرة البيضاء. الأبواب مغلقة دونه، وحيدا يدافع عن نفسه من زحف الدود القادم، والذي لن يتمكن من الفوز بجسده هذه المرة.
منبوذا يرقد على السرير. لا أحد يأبه بصوته المرتفع أو استغاثاته المتكررة. تنتابه ولأول مرة في حياته موجة من البكاء المؤلم وهذا النوع من البكاء دموعه حارة.
في مسيرة حياة كل منا يذرف المرء الكثير من الدموع، دموع فراق لمسافر أبعدته المسافات، ودموع فراق لعزيز واراه الثرى، ودموع الم، ودموع شوق وحنين، ولكن دموع بكاء الذات هي اشد تلك الدموع حرقة وألما، حين يبكي الإنسان ذاته، يبكي فشله. حينها لا يجرؤ على الشكوى، ولا يجد من يشاركه الحزن، ولا يقوى على البوح بما يعتمل في صدره. للمرة الأولى في حياته يتعرف على هذا النوع من البكاء المؤلم: بكاء الذات. تتدحرج كرة حياته أمام عينيه وتبدأ ذكرياتها المؤلمة بالتسارع، فتتفجر ينابيع الدموع، وتبدأ محاسبة الذات.
الحادث الذي تعرض له مؤخرا أعاده إلى ميزان الحساب الختامي، فوضع نقطة وبدأ من أول السطر متسائلا: ماذا لو كانت نهايتي؟ وماذا عملت لآخرتي؟ وكيف سأقابل رب العالمين وأنا احمل تلك الأكداس المكدسة من الذنوب والآثام؟
صعب عليه مصيره الذي آل إليه فوجد في الدموع مهربا وملاذا. يستعيد بالفكر جميع مراحل حياته، فيجد أنه لم يجن من سلوكه وطريقته في الحياة إلا المال، والمال قد بدده فبدده.
يتساءل بينه وبين ذاته: ماذا إذا تخلى عني الحظ وكرهني المال؟ لن يبقى لي صديق ولا حتى زوجة. العزة، الكرامة، الجاه، الذكر الطيب، الصديق الوفي، الزوجة المخلصة، ثروات بددها واليوم لا يملكها، ولا يمكنه شراؤها. توقف مع ذاته برهة من الزمن متسائلا ومستغربا: هل أنا من يبكي؟ ولماذا البكاء؟
حاول مدافعا عن نفسه استحضار أفكار معلمه ومرشده وملهمه وأبيه الروحي –حامد- محاولا قتل مشاعره الجديدة المبكية مواجها ضعفه.
حامد شاب طويل أنيق معطر يبدو عليه الثراء والثقة بالنفس، وإن كان يعاني انهيارا روحيا يحاول إخفاؤه، وعقدة سببتها له قسوة والده. تبرز في جميع تصرفاته وتعاملاته، لذلك يتحاشاه الجميع.
مع حامد وبمعونته المادية تمكن رامي من تجاوز وقت عصيب مادي خيم عليه في الماضي، وبإرشاداته وتعاليمه صقل لديه روح الانتهازية والاستهتار التي امتلكها، والتي هي اليوم إحدى أسباب دموعه. "الحياة غربة لمن يجهل قوانينها وجنة لمن يستخدم تلك القوانين،" كانت أولى القوانين التي اجتهد في تعلمها.
عمل لدى حامد عدة أعمال كان منها: مزايدا صوريا في مناقصاته. قناعا يخفي وجهه وانتهازيته وتسلطه. ملقاطا يلتقط مكاسبه القذرة. نادلا لموائده. سائقا لمواكبه. مستشارا لنزواته. وسكرتيرا لشهواته.
اعتاد منذ نعومة أظافره على الشر والكذب والنفاق حتى وصل إلى مرحلة الإدمان، والاستهتار بالناس وحقوقهم ووجودهم وكرامتهم، فأصبحت تلك هواية واستراتيجية وأسلوب تعامل عرف به، ودمغ بشخصيته. قوانين الحياة التي مارسها وتعلمها وتفانى في تطبيقها كانت بسيطة وعملية. الناس قطيع من الأغنام يجب أن يتم قيادتهم بالخداع والنفاق والرياء والحيلة. الخير والفضيلة ليس لهما وجود إلا في أذهان المفكرين، وهي مفاهيم خيالية لا يمكن أن تظهر إلى الوجود. النفاق هو فلسفة. الرياء هو حسن تصرف. تهميش الآخر هو ذكاء وفطنة. الحكمة أن ينكث المرء بوعده (ألف قلبة ولا غلبة). التذبذب خطة استراتيجية. طمس الحقائق عبقرية. الكذب الدين الجديد.
هو يغفر لمن يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب. تعلم استغلال نعمة النسيان، فالعالم محدود النظر، قصير الذاكرة، وأكبر فضيحة لا يتجاوز بعدها الزمني أسبوعا واحدا.
انعزل عن كل من هم حوله من البشر، ونبذه وكرهه أصحاب الفكر والمبادئ وما أكثرهم! فقد البصر والبصيرة، وفقد القدرة على رؤية الطريق السوي وتقدير المسافات الحقيقة. أضل الطريق إلى الروح، أعمته سطوة الجسد عن متطلبات النفس، سلطان المال والجسد تمكنا منه.
اليوم ضعف الجسد وبدأت عودة الروح وأشرق الندم. قرر اليوم أن يقترب من إنسانيته، ويحتضن الخير. قرر أن يغتسل من الآثام ويتطهر من الشرور. يدرك كم هو صعب طريق الخير، خاصة لمن لم يرتده منذ زمن. يعلم أن الله غفور رحيم. ولكن ماذا عن بني البشر هل سيصدقه من حوله؟
أمام نافذة المشفى تتجاذبه أفكار اليوم، والغد يوم آخر.
◄ مازن الرفاعي
▼ موضوعاتي