بشير عمري - الجزائر
سائل العمر
في صباح اليوم الثاني من حلولنا بالجزائر العاصمة قادمين من مرسيليا، وقبل أن نفترق على موعد آخر، قالت لي ريتا:
"اليوم سيصدر بيان عمرك البيولوجي. سأسحبه من الإنترنت."
تلبسني شعور غريب فيه ما فيه من تشويق وانتظار كالذي يسبق عادة لحظة استلامي لمظروف صوري الشمسية الجديدة من يد الفوتوغرافي. لم أكن أعلم أن لي عمرا آخر غير الذي أعده كل يوم مع رحلة الشمس فوق رأسي.
"والكشف عن العمر البيولوجي إجراء تستلزم طبيعة العملية." هكذا تقول خطيبتي اللبنانية ريتا، فهي تملك دارا من أفخم دور جراحة التجميل بمرسيليا.
وتقول أيضا: "تتفاوت أحيانا الأعمار البيولوجية لأعضاء الجسد الواحد، فقد تكون اليد أكبر سنا بيولوجيا من الرجل، وبشرة الوجه أصغر عمرا من لون الشعر."
ومذ وقعت المسكينة في شراك حبي وهي تفكر في إجراء عملية تجميلية لشكلي، فأجدني أحيانا اسأل نفسي:
"ما الذي حببني إليها إذن؟ فشكلي ليس بالمستوى الذي يغري امرأة عادية، فضلا عن خبيرة أشكال وجمال. لست أدري. ربما لطموحي في عولمة حكاية علي بابا واللصوص الأربعين، وقصص الجريمة المنظمة القديمة، فريتا أيضا مثلي شغوفة بأدب الجريمة وبالعالم السينمائي."
انتظرتها في المساء كما اتفقنا بمقهى الأندلس بالجزائر العاصمة، وعندما وصلت ومظروف بيان عمري البيولوجي بيدها نظرت إلي وقالت:
"أبشر، أزف إليك نبأ سارا."
اعتراني إحساس بالغبطة. لعلها اطلعت على البيان قبلي، فوجدت عمري البيولوجي أفتى من عمري الفيزيائي أكثر مما كانت تتصور. قد لا يكون ثمة داع لإجراء العملية. قلت الحمد لله، جمال دون جراح، لقد اقتنعت بشكلي أخيرا. ثم عنّ لي أن أؤنبها قليلا عن تأخرها هذا في اكتشاف وسامتي وجمال شكلي. لكنها سبقتني إلى الكلام:
"صديقي الأمريكي عالم الأحياء الدكتور بوب سيكون بيننا بعد بضع دقائق."
ما لي وعلم الأحياء والأمريكان. أي زفاف هذا الذي يمر على أمريكا؟ لكني لا زلت لا أجرؤ على رفض رغبات ريتا، بل حتى نزواتها، ولا حماقاتها أيضا. ألححت أمامها على حقي في الاطلاع على مضمون البيان، بينما واصلت هي الامتناع عن فتح المظروف بل وهددت بتمزيقه إن أنا أصررت على طلب الاطلاع على مضمونه.
وصل عالم الأحياء الدكتور بوب لتوه وبيده علبة كرتون صغيرة شبيهة بعلبة تغليف زجاجة العطر. وقفت أنا وريتا، ثم قدمتنا إلى بعضنا البعض:
"خطيبي من الجزائر."
"تشرفت سيدي."
"صديقي عالم الأحياء الدكتور بوب من أمريكا."
"لي الشرف."
جلس الدكتور بوب وراح يحدق في مقاعد وطاولات المقهى، وبفرنسية متكسرة ابتلعها سمعي بمشقة كبيرة فهمت منه القول إنه أخطا حقل التجريب. سألت ريتا بالعربية:
"وماذا كان عساه سيجرب؟"
راحت ريتا تربت على كتفي، وبنظرة حادة بسيماء من يقول لا تتسرع، قالت:
"وحدنا نحن الثلاثة الآن نعلم بالنبأ الأعظم، فالدكتور اخترع سائل بمقدوره أن يعيدك إلى الفترة التي تبغي من عمرك."
سألتها: "أيعيد العالم معي إلى تلك الفترة التي أبغي، أم يعيدني إليها وحدي؟"
ضجرت ريتا وقالت: "لا تتحامق فترتك العمرية تخصك وحدك ولا شأن للعالم فيها. ثم لا أحد بوسعه أن يعيد العالم إلى الوراء."
"أي يعني سيعيدني من دون وعي الآن. وماذا عنا، عن علاقتنا التي لم تنف بعد عن العامين؟ لا. لا. أفضل الشيخوخة إن كانت ستجمعني بك على العودة إلى شباب يبعدني عنك حبيبتي."
لم أتحمس لفكرة ريتا وصديقها عالم الأحياء الأمريكي، وبطبعي لست أتحمس لأخبار الاختراعات والاكتشافات. ثم عدا عن هذا، ليس في فترات عمري الماضية ما يستحق الرجوع إليه، والتعرف على ريتا وموافقتها الغريبة على الارتباط بشخص مثلي كان أعظم إنجاز حققته طوال عمري. لكني صمت لبرهة أفكر. للفترات الماضية؟ للفترات الماضية؟ أي هذا يعني أن هناك الآتية.
سألتها إن كان سائله يعيد من العمر فقط ولا يزيد فيه. قرصتني تحت الطاولة وهمست في أذني:
"ما لك أخرق هكذا؟ وجدت مذ وعيت الإنسان لحب الشباب لشديد، وحدك أنت من يهفو إلى الهرم. اسمع سنكون أول من يجربه."
قلت لها: "أظن أن تجارب كهذه تجرى على الحيوانات أولا، ألست محقا في هذا؟"
تدخل الدكتور بوب وقال: "لكن الإنسان وحده من له الذكريات، ووحده من يدرك الفناء. هيا نعود إلى الفندق ونشرب سويا."
اهتز قلبي، فصحت بملء فيه: "ومشروع زواجنا؟"
الله وحده يعلم كم كنت شغوفا بالزواج بريتا، ليس لأني فقير أقطن بحي شعبي كبير وسط إحدى أفقر مدن الجزائر النفطية، وهي الفتاة التي تملك أفخم دور جراحة التجميل بمرسيليا، ولا للتلذذ بفتنة جمالها اللبناني، بل لأحقق حلمي في المشروع السينمائي الكبير. لحم ريتا وأخواتها من اللبنانيات غلاف ذهبي لكرتون السينما الفاضح.
لن يمنعنا السائل من تحقيق مشروع زواجنا، بل سنحققه في عمر يافع حار من الفتوة، على السرير العربي الوثير الذي اقتنيناه من مهرجان دبي للتسوق هذا العام. هكذا قالت ريتا.
استدارت بوجهها نحو الدكتور بوب وسألته:
"أليس هذا صحيحـا؟"
"أجل صحيح. عليكما فقط أن تتفقا على فترة منطقية حسابيا من عمركما حتى تلتقيا فيها وأنتما في عز الفتوة."
كنت أكبر ريتا بأكثر من عشر سنوات. رحت أعود القهقرى من عمري، وأفتش في أرشيف الذاكرة عن أغنى ملفاتي. كانت ذاكرتي مساحة جرداء واسعة، وأنا أركض عبرها أبحث عن منطقة خضراء من مناطقها تلك. وفي لحظة توهان صحت:
"أريد فترة العشرين."
قالت ريتا: "ولم العشرين بالضبط؟"
قلت لها: "السن الذي كان فيه عام مونديال كرة القدم بإسبانيا."
سألتني: "متى كان ذلك؟"
"سنة 1982."
قالت: "لا، تلك سنة المجازر المروعة بصبرا وشاتيلا. لا أطيق أن أزف إليك وصداها يكتنف فترة عمرك تلك. لنرسو على فترة تربع والدتي على عرش ملكات جمال الكون."
سألتها: "متى كان ذلك؟"
"سنة 1979."
قلت لها: "لا، تلك أيضا كانت سنة كامب ديفيد. لنحترم تضحيات الشعب الفلسطيني."
تزايدنا وتناقصنا في فترات عمرينا. فتحنا أجندات كثيرة، والدكتور بوب مشدوه إلى سجالنا وحساباتنا والدهشة تكاد تفتك به وبسيماء من يقول كم أنتما محشوان بآلام السياسة، حتى إذا ما عثرنا على منطقة زمنية باردة من عمرينا اقترحناها للدكتور بوب كحدود زمنية متفق عليها ليعيدنا إليها. حقيقة كانت فترة خليقة بأن يحفل بها عمرانا على نعومة السرير العربي الوثير الذي اشتريناه سويا من مهرجان دبي للتسوق هذا العام.
استدرت نحو الدكتور بوب، وقبل أن أتكلم فهم ما أردت سؤاله عنه فعاجلني بالجواب:
"أعرف إلى ما تلمح، فأنا لم أرد تجربته في أمريكا لأنني ببساطة من معارضي الحرب على العراق ولا أريد التشجيع على الزيادة في عديد قواتنا العاملة هناك، ولا في إسرائيل لأني وريث سيناتور في الكونغرس عقيم، ولا في ألمانيا لأن مشروع هتلر النووي لا زال كبيرا ويهدد أمن الأجناس الأخرى مستغلا تطور علم الاستنساخ. بصراحة أتجنب مزارع الحرب العالمية الثالثة."
قلت له: "نجاح مشروعك بالجزائر نجاح للشوارع والملاعب والمقاهي وأبواب الثانويات والجامعات أو الجبال. على كل، أسلحتنا ليست للدمار الشامل فهي ليست أكثر من أسلحة بيضاء."
جفل الرجل أمامي فجأة:
"بيضاء، إنها أبشع قتلا من ذات الدمار الشامل."
وجدتني محرجا مضطرا لطمأنته:
"لكننا استجبنا لدعوة السلطات بالمصالحة مؤخرا، وأعدنا السكاكين إلى المطابخ والسواطير إلى مذابح البلديات. أما قرأت هذا في الصحف العالمية؟"
قال لي: "هذا جيد، ومن جهتي سأسعى لاستصدار توصية أممية."
قلت: "تتعلق بماذا؟"
"بحظر بيع منتوج اختراعي إن لقي النجاح إلى بعض القوى."
"الإرهابية أظن؟"
"لا، بل النووية."
"المنوية أظنك تقصد؟"
"النووية قلت، فالشباب في فكرها دمار. هه هيا. أين تودان إجراء التجربة؟"
ابتسمت ريتا وقالت: "على صفرة صحراء السرير العربي الوثير الرملية."
قمنا من مقاعدنا ننحو باتجاه فندق السفير، حيث فرشنا سريرنا العربي الجديد بقصد التجريب.
وأنا أمشي في الطريق أخذت أشيع بناظري لآخر مرة أزقة الجزائر في سني، الأربعين. ثم توقفت لحظة أمام كشك بقرب من باب الجامعة المركزية، واقتنيت مجموعة من الصحف. وعندما سألتني ريتا: "لم كل هذا الكم من الصحف مع أنك في عوائدك قليل القراءة الصحفية؟" قلت لها: "خشيت إن عدت إلى الفترة العمرية التي اخترنا أن نفقد شيئا من ذاكرة اللحظة الراهنة، فمن غير الصحف بقادرة على مساعدتنا في رأيك؟"
ابتسمت ريتا بسيماء من يسخر وقالت: "فكرك أن في الصحافة العربية ما بوسعه أن يذكرك بالراهن؟"
وبمجرد دخولنا الغرفة بالفندق، سلمنا الدكتور بوب زجاجة سائل العمر: هكذا أسماه لتوه. ثم قال لنا:
"هيا، اشربا. لقد ضبطت مفعول السائل على الفترتين اللتين اخترتما من عمريكما."
وحدت أنا، وثلثت ريتا، وشربنا كأسين دفعة واحدة. سكرنا. ثم استفقت فما ألفيتني إلا غارقا في ثوبي الكبير وبالقرب مني ما يشبه حزمة ألبسة مفتوحة مبعثرة: ملابس داخلية. سوتيان قورج. تنورة قصيرة. مايوه. قميص مشدود.
سألت الأشقر الطويل عمن يكون هو، وكيف أتى إلى هنا، وما الذي حصل أصلا.
قال لي: "أخطأتما الحساب، أحلتماني إلى 1973، زمن الأزمة النفطية العربية، فأفرطت أنت بها في الصغر، وعادت ريتا إلى العدم لأنها لم تكن قد ولدت إذ ذاك. إخفاقكما في حساب السنين صيركما إلى هذا."
لم أفهم شيئا مما كان يعنيه، فوجدتني ضعيف البنية، خفيف السنين، أتلوى كالرضيع على سرير وثير، بينما الأحمر ضخم الجثة، كث الحاجبين، يعتمر قبعة رعاة البقر واقفا قبالتي يمزق مظروفا كبيرا، يشرع في قراءته وهو يردد في ذهول كبير:
"ما هذا؟ خطأ في الطابعة أم في الأصل؟ مستحيل أن تكون بهذا العمر البيولوجي. مستحيل."
انسحب من أمامي ممتعضا مندهشا، بينما رحت أنا أتهجى ما كتب في ذاك الكم الكبير من الصحف الذي بين يدي، ولم أستطع فهم شيء مما قرأت.
◄ بشير عمري
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ