أميمة أحمد - الجزائر
لا تـطــل الغياب
لا زالت آثار النوم غافية على جفونها. جالت عينيها في الغرفة، توقفت إلى الوسادة الخالية وما زالت محضونة بين ذراعيها، تأملت الألوان المنسجمة في غرفتها، كلها مستولدة من مشتقات الأصفر، اللون المحبب لها. أعجبتها الأناقة المتواضعة، وتلك الوردة المتسلقة على نافذة غرفة نومها. كل شيء يوحي بالشاعرية المفرطة.
هكذا أصبحت بايا تبحث عما يُريحها، وكان هذا الأمر مهملا لديها، لأن راحتها كانت خارج منزلها، في الحياة العامة، حيث السياسة والنقاشات الحادة غالبا، فهي لا تعرف أنصاف الحلول، وهذا ما جعلها تحزم متاعها البسيط ذات صباح وتغادر الوطن على أمل العودة ذات يوم. لم تعد بعد، لكنها عاشت في أحضان وطن تشتاق له، رأت ملامحه في عيني ضياء الذي كان قبل قليل غافيا على تلك الوسادة الخالية التي بين ذراعيها.
تساءلت تُرى متى أرى ربوع الطفولة والصبا؟ ومتى أرى أزرق العينين الذي لم أره من قبل، ولا أعرفه عن قرب؟ احتجت على نفسها. كيف لا أعرفه وهذا العام الرابع مذ تعارفنا تمضي منه نحو خمسة أشهر؟ وتذكرت ليلة ميلاده وكيف احتفلت بها بسحر لم تعيشه من قبل. وسكرت حتى الثمالة، رقصت جوانحها فرحا تلك الليلة، وبعد هذا تقولين لا أعرفه عن قرب، بل هو أقرب من نسمة الربيع إلي.
وسرحت في تلك الرحلة، لم تعد تميز فيها الواقع من الخيال، حينما كانت تُبحر في عالم الإنترنيت، فاجأها موقع للطرب، فأغمضت عينيها وأشارت على اسم أغنية في القائمة، وقالت حظك يا ضياء، ثم غادرت الموقع تتابع إبحارها، فتفاجأت بعد دقائق كانت نسيت فيها الأغنية الحظ، ليصدح صوت شجي، راقص النغمة، يشق سكون الليل وقد أشرف على نهايته، " أنا اللي عليك مشتاق مش غيري مشتق ليك."
أي مفاجأة سارة مع مطلع الصباح، اختلط نغمها الراقص مع أصوات المآذن المنطلقة من كل مكان، تدعو الناس إلى الصلاة، فيما كانت الأغنية الحظ تدعو بايا وحدها للحلم. أغمضت عينيها تستمتع بموسيقاها التي لم تسمعها مذ جاءت إلى هذا البلد، وكانت هذه الأغنية تحتل صدارة أغاني الرحلات المدرسية، أو الرحلات التي تشرف على تنظيمها بعدما كبرت، وأصبحت صبية.
كم تحرشت بها الأغاني على ألسنة معجبين لم يكن يجرؤ أحدهم على تجاوز حواجز وضعتها بينها وبين الآخر. تذكر من تلك الأغاني "سمرة يا سمرة شغلني هواك..." وأغنية "سمرة يا أم عيون وساع والتنورة النيلية..." وغيرها من أغان لم تسعفها الذاكرة في استحضارها. كانت تملؤها غرورا أنثويا وهي تعلم أنها موجهة إليها.
"أنا اللي عليك مشتاق، مش غيري مشتاق ليك..." ملأت روحها فرحا غامرا، وهي ترقص عليها وسط رحلة أصدقائها الذين التقتهم بعد طول غياب، ومنهم لم تره من قبل، وضياء ممن تراه لأول مرة، ورافقتهم في رحلة إلى هضبة البلعاس، حيث وعدها ضياء أن يجلسا تحت البطمة الوحيدة في تلك القفار، التي تماثل في وحدتها، وحدة بايا في الاغتراب.
حزمت بايا خصرها بشال أهداه لها ضياء وراحت تنساب على أنغام الموسيقى الراقصة، ما بين مقاعد الحافلة التي تقلهم لبلعاس، ونشوة السكر تلفها بطلاقة كينبوع تفجر ماء رقراقا عذبا، انطلقت بايا حدا أدهش نبيل الذي يعرفها متحفظة، وخجولة أيضا، فيما انطلقت أسارير ضياء ابتهاجا بهذا النبع المتفجر فرحا خزينا لم تسمح صخور الغربة بانبجاسه. كان يُصفق بقوة، وعيناه الزرقاوان تنضحان فرحا وسرورا ولهفة ليحضنها، يُقبلها على ذؤابات شعرها التي تزينت بقطرات عرق بعد فترة من الرقص.
يا إلهي ما أروعك أيتها البايا الحلم. كان الجميع مرورا برفقة بايا، والدهشة مرتسمة على محياهم: كيف تغيرت بايا، وكيف أصبحت تضج أنوثة، وكأن الزمن لم يمر عليها طيلة فترة غيابها، فما زالت فتوة الشباب تكسوها بعمر تحت العشرين، سألوها بعدما جلست في مكانها: "أخبرينا كيف أمسكت بفتوة الشباب حتى اليوم؟" فنظرت إليهم نظرة لوم، قائلة: "أنا لم أمسك بعمر الشباب، لأنه ببساطة هذا هو عمري سبعة عشر عاما، ورعاه وسقاه الحب فاحتفظ بنضارته." والتقت عيناها بعيني ضياء بصورة غير مقصودة، أثارت انتباه الجميع، وضجوا بضحكة واحدة: "معك الحق، مثل حب ضياء يعيد الشيخ طفلا." فقاطعتهم، "ومثل حب بايا لا يجعل الزمن يتوقف معه، بل ويرجع أدراجه لأيام المشاعر الطفلة للحب."
عادت بايا تجول بعينها الغرفة الجميلة، وسألت ضياء بصوت عال: "متى نلتقي ضياء؟" كنت قد غبت عن أحلام نحو ربع قرن وهي حبك الأول. غيبك السجن لآرائك، عندنا الناس تسجن على الكلام، بينما المجرمون يعيثون فسادا في الأرض، فهل بالعمر بقية لتغيب عني الآن، والحب يترعرع طفل آخر العنقود بدلال وغنج ولهفة الشوق للقاء؟
ضحكت، وهل افترقنا حتى نلتقي؟ لقد تعارفنا ونحن متفارقان. ضحكت على هذه المفارقة، ونسفت لحافها وقامت من حلمها اللذيذ، الذي يتلون كل يوم بألوان قُزح، تنسج حوله الحكايات على أمل أن تتحقق حكاية منها يوما ما.
◄ أميمة أحمد
▼ موضوعاتي