عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال يحياوي - الجزائر

تــواطـــؤ مـشـبــوه


أكثر الموت ألما حين تضحك وعيناك تبكيان، وتكذب وأنت الصادق.

لا، لا تصدق أن أحلامك اللذيذة يمكن أن تمسح الغبار عن حقيقتي المرّة. لا تصدق أنك يمكن أن تختطف اللقمة من فم الأسد كما يقولون، أو أننا يمكن أن نتفق ونجلس عند مائدة عشاء واحدة، ملونة ببذخ الحياة، وبذخ حب صبياني مشوه، وأن نبضنا يمكن أن يهتز على الوقع نفسه.

لا، لن نلتحم. ما زالت الأشواك تنبت بغزارة في دربك إلي، ما زالت تخدش جموحك لاحتوائي، تعري أوهامك، تفضح نشوتك الحيوانية الساذجة.

لا، لن نلتحم. لن نخمد نار الواقع بلهيبها المتعالي حدّ رقابنا المتهاوية. لن نقوى على مواجهة الريح. عليك أن تصدق أنك بكل ثرائك، بإغرائك الذابل، بنشوة اشتهائك الغائرة بأعماقك حدّ الألم، لن تقوى على احتوائي، وأن جسدك المنتفض سيهوي إلى قعر الندم ويلعق خيبة غروره الذكوري العابث.

رسمة لآمال يحياويدعنا صديقي نرتب الحروف المقلوبة، نمسح الرماد عن لقائنا ونعيد تشكيله، لنرى أعماقنا بوضوح. دعنا نلملم فتاتنا وننصرف. افهم أني لن أحبك، مادام الموت قد تسلل إلى جوارحي، ولف شرنقته على شبابي، مادام سحر العالم كله لن يكسر حواجزه المنيعة، لن يعيد الأنوثة للأراضي البور بذاتي الجريحة، لن يمسح حسرة العمر الراحل إلى حتفه. دعنا نرحل، فالمكان ما عاد يحوينا، والهواء ما عاد يكفينا. لن يشرق الربيع بضفاف الجحيم، ولن تنبت الأزهار بحمم براكيني الخامدة.

لا لن نلتحم. كنت صبيا في الستين، وكان قلبك يتدفق شغفا جنونيا براقا، وكان كل ما تلمسه بأناملك الهرمة يستحيل ورودا ملونة، تقفز من شبابيك مهجورة لتراقص عبير الحياة في سحرها وغرورها. كنت تجر خيوط الفجر عنوة لتحتضن الصباح وتحس ملمسه، كنت نهما، تبتلع قرابين العالم المرمية عند قدميك، تمتص شبابها كمصاص دماء جائع، لتنتفض عروقها بمسامتك، وينبض قلبك شبابا على رفات ضحاياك.

وكنت أنا عجوزا في الثلاثين، رميت جسدي في تابوت فرعوني، ودفنته بقعر أعماقي، أطبقت عليه سلاسل حديدية سميكة، ورميت بالمفتاح في سر المحيطات المسكونة بالصمت، استسلمت لسبات الزمن الطويل، غادرت نبضي واستحلت وثيقة صفراء مهملة، محشوة في كتاب عتيق أكله الغبار وأتى على محتواه، مرصع في أرشيف متآكل يخنقه الرماد. وكان لابد للحب أن يسخر منا، كان لابد للجنون أن يكتب قصتنا، بما تبقى من حبر جاف مفلس، وحدث لقاؤنا العاصف، في لحظة ملل مهربة.

كنت جالسة خلف مكتبي، أهز لوحة المفاتيح بذعر صباح كئيب. عشرون كلمة، وصوت آلة تزعق حبرا على ورقة بيضاء خفيفة، سحبتها، سلمتك إياها ببلاهة، وتشابكت نظراتنا الجافة. لا، لم يحدث شيء، لم ارتعش، لم ينسكب النبض الأزرق من نظراتنا. وحدها أسنانك الصفراء لمعت عند إطار نظارتي السميكة. مددت لك الورقة، أمسكتها وتلمست بخلسة مشبوهة أناملي. سحبت يدي منزعجة، فأضفت أنت دون مقدمات:

"أنت متزوجة؟"

"لا."

لا أدري لم قلتها، لكني انسحبت هاربة إلى الرّف المقابل وأدرت لك ظهري. انشغلت ببعض الملفات للتمويه. لم أدرك أنني أمنح غرورك مساحة أكبر من المعاينة الذكورية لتفاصيل أنوثتي المردومة في فستاني الأسود القاتم. كان ذلك كافيا لتوقع الصفقة بأعماقك. قررت المجازفة، ورحت تنثر رصيدك المادي الثقيل أمامي. فرشت كنوزك وعرضت عليّ الزواج في قصرك الخرافي بمدن العز والأبهة الأسطورية، وشهر عسل عند ضفاف القمر. قائمة طويلة وقعها معطفك الفاحش الثراء، ولمعان خاتمك الذهبي البراق، المخنوق في إصبعك المترهل.

كانت لحظة دهشة سريعة انسكبت على ملامحي خلسة قبل أن تندفع ضحكة شماتة رعناء. دحرجت تلال الوحشة بصدري المثقل بمرارته. صمت فجأة، وأضفت بلا اكتراث:

"دعني أفكر."

وقفت مغتاظا، انسكب نفسك مخنوقا مدحرجا بطنك المنتفخة نحو الباب، لمع بياض ما تبقى من شيبك قاهرا إطار نظارتي السميكة، فانبلجت ابتسامة كئيبة عند صفعك الباب.

سحبت ظلي ونظرت من النافذة، تأملتك ترمي بثقلك إلى سيارة فاخرة، باذخة الثراء، وسائق مهذب الهيئة ينعطف بك إلى فوضى حياتك، المتخمة بالأرصدة البنكية، بالأطعمة الملونة، بالمعادن الثمينة، بالحسناوات الصغيرات يجثون عند عرشك الفاخر. شعرت باختناق وأنت تبتعد في زحام المدينة المحموم، تدفقت إلى أعماقي أبواق الحسرة، تزعق مرارة وضجرا وانكسارا، وارتطم فقري بشذى عطرك الفواح، وقد سكن مكتبي أسبوعا كاملا، أسبوعا كاملا قبل زيارتك الثانية.

جلست أكثر أناقة وثقة، حملت سيجارا غاليا لا نراه إلا في الأفلام، وتعمدت أنا الظهور ببؤسي، لففت نفسي بوشاح ذلي، لمع نـُواحُ سخرية الجريحة، تسللت من شفاهي مرتطمة بضحكتك الصفراء الرعناء، وبدأت تنشر بؤسك الثري:

"أنا مسؤول كبير، لدي المال والثراء، لدي شركات ضخمة، عقارات، وحسناوات، أجل زوجتي الثالثة تصغرك بعشر سنين."

فهمت أنك تحصن غرورك، وترمي بالطين في وجه كبريائي الذليل، ابتلعت شتيمتك بلا مبالاة، واصلت أنت نثر إهاناتك:

"لا أدري، تحرك شيء ما بأعماقي حين شاهدتك، راقبتك مرات عديدة تصعدين هذا المبنى. في منظرك العادي البسيط شيء ما يثيرني، ربما هو نوع آخر لم أعهده فيمن يفقنك حسنا وجمالا. لا أدري قد يكون مجرد فضول، أو ربما..."

بقيت أحدق فيك بلا وعي، شعرت بأن المكان يضيق، يختنق بنا، كانت لغتك قد تغيرت اختلطت، أصبحت حروفك مقلوبة، رأيت كثيرا من الجواري يحمن حولنا برقص غجري عنيف، شعرت بالصداع، ورحلت عن المكان إلى الفراغ، لم أشعر إلا بوخز كلمتك الأخيرة حين ارتطمت بطبلة أذني محدثة ثقبا مريعا.

"أو ربما أحبك، أجل ربما هو الحب."

لحظتها تأملت ملامحك بتوسع أكبر، حدقت بك بملء جرحي، حاولت التسرب والتسلل إلى أعماقك، والبحث عن منبع صوتك، من أين تسللت كلماتك بكل تلك الشراسة، بتلك الحقائق المتناقضة؟ استجمعت أنفاسي المتناثرة، وقلت لك ببرود:

"لا، لا ننفع بعض."

وقفت، أسرعت إلى الباب برعشة رعناء، بإيحائة تستجدي خروجك. أومأت معلنة انتهاء لقاءنا، شعرت غصة تهرول بجوارحك، رمقتني بغرور شهواني مكسور، انتفضت خيبتك سلكا كهربائيا تتدافع شرارته كاوية جسدي، بشيطانية محتقنة. غادرتني والعرق يتصبب منك سيولا من الانكسار النرجسي، والذل تسلل مبللا إلى سيارتك الفاخرة.

رميت جسدي على الكرسي، وارتخت أعصابي مخدرة، لملمت أنفاسي وغرقت في دهشة مسعورة. لا، لا سيدي، لا تفكر أن فارق السن بيننا هو الذي جعلني أعيد وثائقك، وارفض الالتحام بخريفك، لا، لم تكن شيخوختك الحائلة دون نبضي وعطائي. لم أقصد ذل أموالك المكدسة، ما كان ثراؤك ليذيب الجليد عن أعماقي، وليس اشتهاؤك الخاطف ولعب أصابعك الساحر بالقادر على إحياء الطفلة المدللة بداخلي. لا، لن أكون عروسك الرابعة. هو بؤسي الذي حال بيننا، هو شبابك.

أنا يا صديقي امرأة الرحيل، نبتت الغربة بأعماقي منذ القدم، واستعمرتني تجاعيد الخيبة سابقة تجاعيد الزمن. أنا طفلة الحرب، ولدت بمعول، وكبرت بصرخة بكاء، أدركت من حروقي الأولى أني مجهزة للنزيف، وأن الموت ينبت بصباحي كل يوم. أنا يا صديقي لا أعرف الألوان، لا تثيرني اللعب الجميلة، لا يشدني شذى الورود والأزهار، ولا تسطع الشمس في سجني العتيق. أنا امرأة احتضن التعب لسانها، واختطف العالم بسمتها وهي في المهد، تشردت سنوات في العالم التحتي، أكلتني الحياة وأتت على راحتي وصبري وأحلامي.

أنا يا صبي الدلال حملت هموم العالم، وبؤس المشردين، وحزن الموتى وذنوبهم، وصراخ الأرامل والأيتام. كل امرأة تنتحب أسمع صوتها بأعماقي. كل فقير بائس أشعر بوخز جوعه ينهش أحشائي. كل طفل شردته الحرب أحس بندقيته تتدفق حمما بشفاهي. كل الحروب أحسها تلتهب بجوارحي. كل الألغام، كل القنابل، البارود المكدس في المخازن الباردة أحسها تحرق جسدي، وتنفث سمها في رئتي، حد الاختناق. أحس كل آثام العالم مدكوكة في ذاكرتي، كل همومهم، قضاياهم الخاسرة، جنونهم جرائمهم، أشعرها تتسلل من شراييني.

لا يا صديقي، أنا امرأة لا يثيرها بريق الذهب، ولا لمعان الألماس، لا يهزني قصر رخامي، ولا سيارة ساحرة، تذيب الثلج تحت عجلاتها، لا. قميصك الأملس يكفي ثمنه إطعام أهل قريتي لأسابيع. عطرك الذي سجن مكتبي أسبوعا يحتاج ادخار معاشي لأشهر. لا يا صديقي، أنا أكبر جرحا منك، أنا تجاوزت الحياة التي ما زالت تسحرك وتأسرك.

لا يا صديقي، أنا عجوز طاعنة الحزن والأسى، ثقيلة السخرية والبؤس، وأنت ما زلت صبيا يحبو على سجاد اللذة الجذاب. أنا أكبر منك بفقري وأنت أكثر مني فقرا بجوعك ونهمك وشراستك. فقير بمعادنك الثمينة، بلهفتك الليلية تعد أوراقك المكدسة خوفا وذعرا. فقير بقرقرة بطنك المتخم بالطعام الثقيل الفاخر، فقير بنهمك الصبياني الفارغ بين أجساد الحسناوات، أنا أكثر خفة منك بخسائري، بهدوئي، ببؤسي، أنا أغنى منك بحريتي.

ليست شيخوختك هي التي أهانتني، هو طمعك، هو شبابك الساخر، هو امتلاء بطنك وجيوبك وحقائبك، هو ثقلك، هو لذتك النشوى وسط رقص الجواري وتدلي الفاكهة الطرية، ووقع الماء المتدفق من نافورتك الأثرية، مراقصا بلزاجة الباحة الرخامية لقصرك الفخم الخرافي. هي جنانك صديقي، أراضيك الدافئة، المثيرة للنعاس.

لا، لن نلتحم. لن تقوى على احتواء صحاري أعماقي القاحلة وبراري بؤسي الجرداء. لا، لن نلتحم، فأنا لا أقبل الرقص عذراء جبلية على الرؤوس المقطوعة والأشلاء المبتورة. لا، لن أقوى على الضحك والتنعم في أفرشة حريرية نسجت بدموع الأيتام والمشردين. لن أرقص على وقع دموعهم. لن افرح للمجازر الدموية المضخة في بنوكك وأموالك. لا يا صديقي: لن نلتحم. لن نلتحم.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2007     A آمال يحياوي     C 0 تعليقات