سالم ياسين - لبنان
ثلاثية من نهر البارد (1): لله الـعـتـبـى
عدلت من جلستها وهي تهرم بعض حبات البندورة، لتعد فتوش رمضان. لا تزال تحضرها رجفة في أعصابها من غضب كبتته صاغرة منذ الصباح من بائع الخضار. الغلاء يستفحل في هذا الموسم، والناس لا ترحم في شهر الرحمة.
أعادت النظر إلى الموقد الذي استصلحته من بقايا مقعد دراسي في مدرسة المهجرين، وأخذت تحتسب مقدار ما صرفته من "كرتونة" المساعدات، فالشهر الفضيل في يومه الأول.
ساعة للإفطار فيلتئم شمل العائلة، وستشرب الكثير من الماء كي تشفي غليل غضبها المحبوس كرامة للشهر المبارك وقربى لله تعالى.
لم تكن لتهدأ أو تستكين إذا ما استثار غضبها أحد حتى تجعل "عاليها واطيها." ومن كان ليجرؤ؟ ولكن كان هذا في قديم الزمان، منذ عهد مضى كالدهر خلف الزمن والحواجز والرصاص، منذ ثلاثة أشهر أطول من العقود الثلاثة التي قضتها لجوءا في نهر البارد، هناك حيث كسرت شوكتها وقصم ظهرها بفقدان أصغر أبنائها.
كم يعتصر قلبها ألما لذكرى عيونه السود تلتمع بلهفة توقا للطعام الذي تعده للإفطار في رمضان الماضي وأول أيام صيامه! كم تشتاق للمس أطرافه الراجفة دفئا وإصرارا على مواصلة الصيام أسوة بإخوته وتحديا لأولاد الجيران، ليستطيع مماحكتهم مغنيا
"يا مفطر رمضان، يا مقلل دينه. كلبتنا السودا تسحب مصارينه."
لم يكن جسده الضئيل ليحمل إكراه نفسه على صيام الشهر كله، فطلبت منه الصيام حتى الظهر، وانتهى اقتراحها بثورة غضب واحتجاج تشبه ثوراتها. فأذعنت كي لا تكسر بخاطر رجولته الصغيرة. ولجأت صدفة إلى الحيلة إشفاقا على عوده الطري، يوم طلبت منه أن يصوم معوضا أيامها التي تضطر فيها للإفطار، بعد أن رآها تشرب الماء وهي "صائمة" فأخبرته أنها معذورة. ثم أضافت مازحة أنها "على سفر." وبعد أن رمقها بنظرة استهجان حزنا "لسفرها"، استفاضت بالفكرة وموغلة بالمزاح بفلسفة:
"نحن الفلسطينيين معذورون، لأننا على سفر منذ عام 1948."
لاحقها بنظرات الاستفهام مستنكرا، حتى استقر تقبلا لعذرها الآخر أنها مريضة ولا تقدر، وكأن المرض والعجز أنسب وأقرب لمفاهيم عالم طفولته، فتعهد متعاطفا شامخا أن يصوم كل أيام إفطارها حتى يكبر، فيصوم الشهر كله ويزيد عليه شهرا كاملا عنها.
كان ذلك سرهما الصغير الذي أثار ضحكاتهما غمزا كلما رأى قطرة عرق على جبينها، فيحضر لها الماء سرا ويشجعها لتشرب بإصرار ونخوة الفادي النبيل، فتستكبر أن تشرب وهو ظمآن، وتقول له إن الغناء يطري حنجرتها أكثر من الماء، وتبدأ بالغناء له بصوتها الحنون وهو يدندن معها بعضا من كلمات:
"يمه مويل الهوى..." كي تلهيه لينقضي الوقت فيفطر.
فاضت دموعها فوق خضار تقطعها بعد أن أجفلت من أن تصيب أصابعه الدقيقة الحبيبة بالسكين، وعلا صوتها بالغناء بنحيب وتحجر في الحلق أسى ومرارة
"...ضرب الخناجر ولا حكم الندل فيا."
وأخذت تعيد كلمات الأغنية بصوت أقرب للعويل، وتضرب بسكينها أشباح من قتلوا أو تسببوا بمقتل وليدها، وتنتحب عافرة ثيابها بالطعام الذي تعمل على تحضيره، فهرع إليها زوجها الصابر قهرا ممسكا بيدها وغاصا بدموعه متمتما:
"اللهم لك العتبى حتى ترضى. إنا لله وإنا إليه راجعون."
◄ سالم ياسين
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ