زينب خليل عودة - فلسطين
لست وحدك
جاءني بعد طول غياب يطرق باب العمر. يقول: كان القرار لحظة ولكن الانتظار كان أسرع. نظرت إليه وعشت لحظات ما بين التأمل والصمت والوحدة. أحسست كم بينها من أشياء مبهمة لا يدركها أحد. وما بين الغربة والحب جذور عميقة من نبض الحياة. أكان القرار لحظة بداية أم نهاية مطاف اتسعت فيه مسافات ومسافات وبقينا نحن في محطة انتظار؟ كان القرار لحظة.
كانت شفتاه ترتعشان وبدا عصبيا على غير كعادته. أجلسته حيث الهواء. اغرورقت في عينيه الحزينتين. مددت يدي على جبينه أمسح قطرات مثل حبات الندى بدت تلمع من وهج الألم. بدا حزينا مكسورا يتنفس ألما. هي كلمات رددها: كان القرار لحظة. صمت وتنهد وبكى بصوت عال وزفر الحسرات تتلوها آهات. قلت في نفسي لم تذكرني الآن وقد طويت السنين معزوفة بآلات بالية؟ ورغم أني لا أستطيع أن أتذكر أني نسيته لحظة، لكني أدرك بين الحين والآخر أن هاتفا يهمس لي ويقول إن بداخلي شيئا مات.
كانت أصعب لحظة حين رأيته الآن. شاب قلبه قبل شعره. بدا لي عمره مئة عام ونيف. كنت احتضن فيه رقة قلبي قبل كلماته. قال: عشت غريبا أبحث عنك، عن ذاتي. قد بدا لي حلما بعيدا. أحسست أنك لست لي. شاء القدر أن أحببت غربتك أكثر من جذورك، بل حتى ترابك.
أكان ربيعا تساقطت أوراقه في مقتبل العمر عشناه سويا؟ أم كان صيفا ساخنا تلاطمت فيه أمواج الذكريات؟ كم كان رقيقا بلمساته! كم اخترقت كلماته كل آهاتي! وكم! وكم! أعلم من زمان أن كان قراره الفراق بعيدا، حيث سكنت روحه في أعلى كوكب يطويه زمان. وماذا بعد القرار؟ آهات وصرخات مدوية.
يقول كانت غربتي بلون واحد، تجاوزت عمري بمراحل. لعنت التاريخ، ومزقت الحنين بين جنباتي، وتجرعت بكأس من ذهب أكذوبة ضحكنا فيها على أنفسنا، ببراءة طفل وأنا رجل. أحسست أني فقدت أي معنى، بل تجردت الحياة من ثياب الحياء، وأشعرتني كم من الغباء كان قراري، بل هو فراري. لو أدري أن المجهول أسود لما تركت عطرك ودارك.
لست وحدك
لست وحدك في الكون حائرا سائرا على أشواك. كنت عنيدا. نسجت لخيالك قصور من رمال. أنت وحدك انهزمت مع نفسك قبل رفع رايتك البيضاء وحتى قبل بدء المعركة، وأنا لا أحب الضعفاء، هانت عليك نفسك.
تعلمت أن النسيان يداوي مع مرور الزمن، وأن العمر لحظات معدودة. وتعلمت أن القوة ليس بالقرار بل بلين القلب ولغة الرقة. وتعلمت ألا أقف عند محطة الحزن. وتعلمت ألا قيمة للحياة بدون الحب، ولا قيمة للحب بدون الوفاء، ولا وفاء بدون صمود وتحد، فكيف لي أن أقبل أنك تركتني وكنت أنا ضحية جلاد من نوع آخر، أسير الغربة واللعب على أوتار الحب وقتما يشاء.
حبيب غره زخرف الحياة ورحل، وترك الديار مسرحا للغرباء. وحين عاد كانت نهاية المشوار. لست وحدك في هذا الكون. تتغير الأشياء، وتطفو ذكريات، ويضيع الدهر بين آهات وأحزان، وتهاجر طيور، وتقبع على شاطئ البحر سفينة. وقتما أنت قررت الرحيل. كنت معك، ولكنك دفنت نفسك بأوهام الغربة وذبحت كل شيء. لست وحدك.
◄ زينب عودة
▼ موضوعاتي