عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربا الناصر - الأردن

الموعد القادم


استيقظت من نومي لأسكن أديم الليل وحدي، وقد تسرب ضوء القمر مخترقا زجاج نافذتي المتسخ، ومنسابا على وجهي. كنت قد أفقت على حضور طيف ملأ أرجاء غرفتي بعبق ذكرى أتنسمها كل ليلة، أشعر به يدنو بالقرب مني، متلمسا بيده تموجات شعري الأسود، طابعا قبلة على جبيني، بعدها يرحل ويتركني وحيدة في مدينة الأحزان، حيث أمشي في شوارعها المليئة بالوحل، متعثرة الخطو، أشق طريقي وسط ضبابها الخانق والوحل اللزج ملتصقا بوجهي، فطفقت أزيله بيدي المرتعشتين والذهول يلبس وجهي. ثم أنتصب واقفة وأكمل المسير تحت سماء هاطلة بالمطر الغزير، وقد بدا لي أسود اللون، كريه الرائحة، يغمر الأرض بالماء القذر. وبعد أن توقف، بدأ الضباب بالتلاشي ليحل مكانه جو خانق يزكم الأنفاس، منبتا الخوف في قلبي.

وقد بدا لي البيت الذي أسكنه –من بعيد- محفوفا بأشجار تتوسط فروعها اليابسة رؤوس غربان سود تنعق بالتشاؤم والحزن، فأدخل من بوابته المنتصبة أمامي، وأخطو في بهوه المشبع بضوء القمر، فترجع الجدران صوت دقات حذائي. بعدها دخلت غرفتي وهي محراب روحي، حاولت أن ألملم أشلاء حضوره المتجذرة في داخلي، لعلي أستطيع سقاية روحي، محافظة على بتلات قلبي المتبقية من السقوط حتى لا تذروها رياح الواقع بعيدا.

لذا تشبثت بالذكرى عشر سنوات أنضر أوراقها بربيع قلبي، وأستحضرها في مخيلتي التي أهلكها الصدأ، متذكرة صباحات تلك الأيام الباسمة، أستيقظ فيها كل يوم على صوت مذياعه، مستمعا لنشرة الأخبار باهتمام واضح وهو يرتشف قهوته الصباحية، فأباغته بقبلة على خده، فيبتسم وتنفرج شفتاه عن أسنانه المصفرة صفرة قاتلة.

كانت أذناي ترهف لسماع ضحكاته المثلجة لقلبي والمذكية لروحي، وبعد أن فرغ من شربه القهوة، تبادل معي أطراف الحديث في مواضيع جمة وجادة، ومع أني لم أكن قد تجاوزت تسع سنوات، لكنه قال لي في حينها - وبلا مناسبة - "يجب أن تكوني قوية، متسلحة بالمعرفة، فالمعرفة قوة..."

لم أفهم آنذاك دلالة تلك العبارة، ولم تكن تلك من عباراته المألوفة، ففي تلك الليلة غادرني جسدا وبقي روحا تسكن جسدي. تركني أتلمس الطريق وحدي نحو المعرفة، التي ابتدأت بسؤال لماذا؟

ولم أدرك إجابة لسؤالي قدر إدراكي لآلام آلاف الأشواك المنتصبة أمام طريقي، مدمية قدمي، لكن يد صديقة انتشلتني من سبخات الحزن وانطلقت بي بعيدا عن هذه الأحزان، انطلقت بي نحو دنيا ابتدأت صباحاتها باحتساء فنجان القهوة، ممضية بعدها بقية الوقت في قراءة سطور خطت في كتب مختلفة، محاولة معها الارتقاء بروحي، معيدة بذلك دوران الكواكب في مداري، تجذبها قوة نابعة من رماد حزني وابتسامة صديقتي، التي أعلم أنني معها على موعد قادم.

ترى هل ستبقى لي صديقتي؟ لا أدري. لكني متأكدة من بقاء كلمات مسطورة في صفحات مصفرة تؤنس وحدتي في ظل ذكرى إنسان معلقة في ثريا السماء، وذكرى صديقة ستكون زهرة جافة أحتفظ بها بين دفاتر عمري.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2007     A ربا الناصر     C 0 تعليقات