عباس علي عبود - السودان
مسافر وموجة
كنت أمتطي صهوة الفراغ؛ بلا وطن، ولا زوجة، ولا هوية. أحمل حقيبتي الرمادية على كتفي اليسرى، قاطعا المسافة بين الزميل والآخر في سرعة متخثرة. أبادر بالتحية أحيانا بلا كلمات، ألوِّح بيدي أحيانا أخرى وخيالي سادر في مجاهل عنيدة.
الأفق غائم والبرق ساكن بين تجاعيد الفراغ، ولا دروب. تحوصلت ذاكرتي، تبدأ الأحداث تتفاعل، تنتهي، لتبدأ من جديد عند نقطة اللامبالاة. فوقها مجهول كثيف، وتحتها يقين غامض. قالت لي ذات الشعر المتموج، تحت النخلة، على طريق البوابة الرئيسية للجامعة:
"لكل سؤال لديك جواب. ألا تحتاج للتفكير؟"
تحسست حقيبتي المتدلية بجانبي وقلت في نفسي: "إنها اللامبالاة." حاولتُ الاستكانة تحت رموشها الممشوقة، تململت الظلال من تحتي، قفزت حبيبة الصبا من بين سراديب الذاكرة:
كنتُ في الثانية عشرة من عمري، أجلس مع ثلاثة من الرفاق، تحت ظلال شجرة النيم الوارفة، جوار منزلنا. رسمت على التراب طائرا يحمل على منقاره قشة صغيرة، تذكرت حينها عشا رأيته في الطفولة، وسط قرية صغيرة، على الضفة الأخرى للنهر. طرقت أذني كلمات الرفاق، لم تكن إيقاعاتها بريئة لكنى لم أدرك معانيها، لانهماكي في الرسم، ولانخفاض أصواتهم. تحفّـزتْ حواسي. لمحتها تعبر أمامنا في رداء أبيض، بخطوط طولية خضراء. خفق قلبي، كان رفاقي صامتين، وبعيونهم بريق متردد. تركتُ الرسم، نهضتُ وحوار غريب يمور بصدري، شممت رائحة لم أدرك كنهها، محركا لساني بين شفتيَّ المزمومتين. نَبَضَ بوجداني إيقاع جديد.
"سارح وين؟" قالت ذات الشعر المتموج.
قلت لها بصوت محايد: "كانت حبيبتي."
"وَمَنْ هي؟"
"نعم أحبتني دون غيري من الصحاب."
أشحتُ بوجهي عنها ولفَّنا الصمت. الوطن يسبح في فضاء لزج، ونظراتها تلاحق أنفاسي الحائرة. الوطن يسافر في فضاء غامض، كسحابة يتيمة، لا تُبشّر بالمطر، ولا تقطع خيط الرجاء.
ظلت حبيبتي الأولى مرفأ التقط عنده أنفاس الوجد المتلاحقة، أسكبُ آهات الصّبا. وها أنا اليوم أمشِّطُ الدروب، على نبضات الطقس المتراخي، متسربلا بالأمواج الهادئة، والصارمة، من ذات الشعر المتموج.
ذات مساء قالت لي:
"هنالك ضفة واحدة، هي الوطن، والحبيبة، والهوية. سأنسج لك ضفيرتين سلما لتستقر على ضفافي."
حملقتُ في عينيها وانصرفت دون استئذان. صباح اليوم التالي بحثت عنها، وفي طريقي إلى كليتها طافت بذهني حبيبة الصبا. نفس الأطياف التي داهمتني وأنا أحاور فتاة داخل عشة في قرية صغيرة. تردّدتُ. رجعتُ إلى المقهى.
قلت لها ذات حوار شائك: "أنا عابر في خريف غامض، فكيف تتقاطعين مع خطواتي؟"
لم تجبني ولجأت إلى الحوار النفسي الصامت.
إنها تتمدّد على دروبي، فإلى أين المسير؟ هل تعبر كالأخريات والسنوات؟ الصدماتُ تمضي مخلخلة دوزنة العبور، وتبرأ الجراح لتبقى الندوب. الأحلام تلاشت أو تكاد. والرائحةُ التي أدركت أنفي يوم ذاك. الإيقاعُ يبدأ خافتا، والوطن سابح عند ظهيرة الأشياء. مساحة جارحة من الأسى والجموح، تفصل بين الإيقاع في نبضاته الأولى، والأشياء تفقد التماع الشرار. لا أريج للتواصل، والخفقان يعاند. هل تبدأ الدورة من جديد؟ قد تورق الأيام عند قمة الوهم. تراودني أطياف الصبية الندية، عند الحد الفاصل بين الطفولة والصّبا، وعناد الفتاة الموجية يعانق دهشتي. ما معنى أن نطوّق انهيار الآخرين، ونشدَّهم إلى ضفاف فقدوا المقدرة على محاورتها، الاستناد عليها، أو الموت عندها؟
"ألا تستطيع التخلي عن أحزانك، مؤقتا على الأقل؟" فاجأتني بسؤالها ولونُ السماءِ أخضر، الأرضُ صفراء، والطقسُ أحمر. كأن حربا مقدسة تدور رحاها بقلب الشمس، فينسكبُ الضياءُ كنزيف الجراح الوحشية.
الوقتُ ظهيرة، ولست بحاجة لتجفيف حبات العرق على جبين لحظاتي. فإنْ كان الشوقُ ضفيرة واحدة، أو سلما لربما يقود إلى الحريق، فلستُ بخائف من معانقة الفرح، إنْ استطاع اختراق مفازة السّأم، ولست بنادم على معاقرة الجنون. أحمل حقيبتي وأمضي. بلاد كثيرة هوَّمتُ بين حواريها، وأزقتها، ونِمْتُ على أرصفتها. بلاد يتحدثُ بعضها لغة واحدة بلهجات متعددة، وأخرى تعبدُ آلهة لم أسمع بها في طفولتي. بلاد درستُ فيها، وأخرى عملتُ بها، وثالثة تسكعتُ تحت طقسها المعبأ بالرطوبة. وها أنا عند لوالب العزلة النفسية أقطع المسافة بين الفتاة والأخرى في خواء مفزع.
أنا عابر في طقسكم. عابر من خاصرة الفجيعة، لأطلال، لأشجار تلفظُ ثمارها قُبيلَ اكتمال الحنين، وقبل ارتعاش اليقين على قوس الصّبابة.
دعتني المتموجة مرة للجلوس، والحديث عن أي شيء يغير لون الظلال. قلت لها وأنا على صهوة الشرود:
"ألا تخافين من استيطان الظلال الهاربة؟ ألا تخافين على أحلامك، أماني أهاليك، والحنين إلى الوطن؟"
طوّقتني بصمتها الصارم، اخترق بريق عينيها ستار الأمان، فدمدم النبض القديم، والرائحة تحاصر أنفي. لعقت شفتي السفلى مذهولا.
إنها تتقدم في جرأة حائرة.
أيّ حنين اشتعل بين طيات نفسها؟
أيّ جنون يحاصرنا معا؟
تضيع تفاصيل الهوية بين اللزوجة والغموض. أحلم بها، تتحول المعاني إلى ركام، إلى هشاشة مفزعة. أحلم بها والحدس يعاند سراب القنوط. يهمسُ إنها قادمة من مدارات الحنين، آتية لتضيع على مدرج الانهيار، لتخبو، ولمرة أخيرة، شعلة الحنين والأحلام. حاولت تغيير الدروب، والمنحنيات، لأدرك قليلا من حريتي، لأطعم خبزا بأقل ما يمكن من غبن، لأواصل بحثي عنها.
ها هي تندفع نحوي.
أيّ ذاكرة تزودها بوقود الولوج إلى عوالمي؟
أهي الإنسانيةُ في تجليها المدهش البسيط؟
لربما تكون خميرة الإحساس
عندما تتحول الهمسات إلى مأوى
والصمت إلى لغة عنيدة.
لعلها البشارة،
بشارة الوصول
إلى قمة جبل سيزيف.
◄ عباس علي عبود
▼ موضوعاتي