جعفر أمان - السعودية
نصان: غفلة + حرية مقيدة
غـفـلــة
"غافل". هو ذا التعبير الأدق في وصف حالي. أرى الحقائق شاخصة أمامي ولا أبالي. يغيّب الموت شخصا ويولد ثان. أمراض، حروب، حوادث، عالم يغلي، وأنا متوحد مع ذاتي. التلفاز بفضائه اللا محدود، المتعة حد الإشباع، الإنترنت بكل ما فيه، ديدني وحياتي. رغم العواصف والأهوال المحيطة، أدلل نفسي حتى النخاع، دون مبالاة لما يأتي. حياة فارغة إلا من هذه الهرطقات. قد يرن جرس إحساسي (المؤقت طبعا) لكنه يتلاشى، يتحول شيئا فشيئا إلى ماض. وينادي خواء الروح أنا آت. ويأتي، يعجبني، ويلفني معه كدولاب السيارة حين يدور. ثم أسأل:
" أين عقلي؟ أين فكري؟ أين رأسي؟ لست أدري."
لحظات الصفاء تدفعني أحيانا لكي أناجي نفسي. وأنادي بأعلى صوتي:
"حتى متى أعيش في غياهب الحياة؟ حتى متى أظل صفرا مهملا في مجموعة الأعداد؟"
أمتلك الخبرة والحنكة. أمتلك الثقافة -عذرا كنت أمتلك الثقافة- لكنها تسربت في ظل متعة جوفاء. لم يبقى عندي سوى التظاهر بما كان عندي. فقدت الإقناع بالحجة. بقيت أعيش على الأطلال.
ذات يوم تقربت إلى الله بواجب اجتماعي. قبضت على مقود السيارة وكأني أصارع نفسي الأمارة، وهي تشدني للعودة إلى داري. حيث تلفازي ومتعتي وحياتي. أصارع لأكمل الواجب الاجتماعي: زواج أحد زملائي.
انتصرت على نفسي. وصلت الحفل. تفرست في الوجوه وقسماتها. الفرح يعلوها. ثغور الحضور مبتسمة، روائح الطيب في كل زاوية ومكان. سمعت القهقهات. توزعت نظراتي على الشخوص. شدني التنوع في اللباس. كاميرات هنا وأشعار تضج بها ساحة الحفل هناك. صخب، صخب كثير وعال. باركت. ودون قصد ذبت في الجمع، فكنت كأحدهم، معجون بالفرح والابتسامات. انتهت مهمتي. تعمدت ألا يلمحني زملائي حتى لا يطول بي المقام واضطر لمحادثة هذا وملاطفة ذاك.
خرجت قاصدا مكانا آخر أبتغي غذاء لما بقي من روحي وإحساسي. لقاء الخميس عند عالم دين يفتح قلبه قبل مجلسه للقاصي والداني. في منتصف الطريق، اصطدمت عيناي بصف طويل من السيارات متوقفة على جانبيه. آه. تذكرت. هنا مراسم العزاء الخاصة بزميلي في المدرسة التي انتقلت منها. لقد رحل دون إنذار، خدعه الضغط، ضغطه عال. هنيئة، وإذا بشريانه ينفجر ليعلن ختام حياته القصيرة. كان في أوج شبابه، دائم البسمة، وهمه خدمة مجتمعه. ساقتني قدماي نحو العزاء، وقبل أن أصل، تقلصت قسمات وجهي، تقطب حاجباي، أقفلت شفتاي على أسناني. جمع غفير. الكل حزين. القريب يبكي بحرقة، والبعيد باد عليه التأثر بلهفة.
قبل قليل كنت في جمع من الناس. الآن أنا في جمع آخر من الناس. هناك الابتسامات وأبيات الشعر والأفراح. وهنا صوت تلاوة القرآن والآلام والأحزان. دلفت إلى داخل المجلس. تسمرت في أقرب كرسي. مرّ أمامي طفل صغير يحتضن المصاحف. طلبت منه واحدا، فتحته، قرأت ثلاث صفحات. هل هي مصادفة؟ هل هي لتأكيد جواره للحوريات في الجنة؟ لا أدري.
في منتصف الصفحة الأولى أو في الصفحة الثانية، لا أذكر. المهم أنه في إحداهما وأنا أتلو الآيات، وإذا بآية فيها اسمه "لطيف" وهو عبد "للطيف". مصادفة عجيبة استوقفتني وسمعت صوته وكأنه ناداني. أغلقت القرآن، وأخذني شرود. تذكرت معه المرحوم. كيف كان حيويا واجتماعيا. كيف بدأ مشروعه التجاري الذي يقفز مع كل عام خطوة للأمام. تذكرت مرحه، صراحته، صرامته، طيبته. وبرغم انتقاله لمدرسة أخرى، لم أنسه ولم ينساني. قطع صوت أحد المعزين شرودي. ودون شعور تمتمت:
"صدق الله العظيم. رحمك الله يا لطيف." وزفرت بآهة حراقة ألهبت كل ذرات كياني. تذكرت على الفور مساء البارحة، عندما كنت أوصل والدتي وزوجتي إلى عرس قريبتنا. وعلى بعد خطوات كانت سيارة الإسعاف تنزل أحد كبار السن ممن ودعوا الحياة بحادث، وينتظر المواراة. عندها خجلت من نفسي وغسلت بدمعي فكري وإحساسي. نفضت غبار تلك السنوات بشعور حقيقي تسلل بثقة إلى داخل روحي. صحوت، لأعاهد نفسي على أن أعود لنفسي. على أن أبعد الغفلة. على أن أدرك الحكمة. صغار يولدون. شباب يزفون. صغار وكبار يدفنون. إذن، لماذا اللهث الفارغ في حياة فانية. لأعمل لآخرتي. "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخيرُ أملا". فكل شيء فان. فان. فان.
حرية مقيدة
"أنا حرة. أفعل ما أشاء وبالطريقة التي أراها. ألم يعقد قراننا؟ إذن هو زوجي شرعا. وأرفض أن تملي عليّ أي منكن، ماذا أفعل أو كيف أعامل زوجي؟"
هكذا هي إسراء منذ ارتبطت بخطيبها. غيّرت جلدها. نفضت غبار الاحترام لذويها. أحست نفسها وكأنها كبرت فجأة. نضجت بحيث أصبحت لا تستمع لأحد سوى صوت خطيبها. مما أقلق من حولها عليها. ومع كل يوم يأتي، يزداد خوف الأهل عليها سيما مع هذا التحول الخطير والمفاجئ لقناعاتها وآرائها.
اجتمعت شقيقاتها لتدارس حالها. دفعهن القلق والخوف على شقيقتهن من المصير المجهول إلى تحمّل كل ما يمكن أن يصدر منها. وقررن بالإجماع إعادة أختهن لما كانت عليه، من حسن تصرف ورؤية ثاقبة وبصيرة نافذة برغم صغر سنها. فكان أن انتهزن فرصة تواجدهن معا. وبادرت إحداهن بالقول:
"إسراء، نحن نعي أن سعيدا أصبح زوجك شرعا، لكنه عرفا لم يصبح بعد. وليس صحيحا أن تجاريه في كل ما يطلب. أنت بهذا ستفقدين شخصيتك، وستصبحين بعد الزواج دون رأي."
طالعتها إسراء بعينين حادتين ونظرة ماكرة، ثم قالت:
"أنتن شقيقاتي وتدركن أنني صاحبة رأي وشخصية. وعلى قدر كافي من الذكاء، أستطيع به أن أصل لما أريد دون أن أفقد شيئا."
" للأسف. شخصيتك اهتزت لدي ولدى كل شقيقاتك، ودليل ذلك أنك أصبحت تتحدثين معنا بلسانه. سعيد قال. سعيد فعل. سعيد يريد ذلك الشيء، وليكن ما يريد. دون أي اعتبار لرأينا. دفاعك المستميت عنه في كل الأحوال أثار استغرابنا جميعا، وبدأنا نفقد الثقة في رجاحة عقلك وقوة شخصيتك وسداد رأيك."
"زوجي ولا بد أن أكون في صفه."
"ضد أسرتك وأهلك؟"
حارت ولم تجد جوابا فصمتت. واصلت شقيقتها الحديث بعد أن بدأت تتلمّس أولى خطوات نجاحها فيما تسعى له:
"تنازلك مرة تلو الأخرى يفقدك فرصة النجاح والوصول لما تسعين له. سوف يعتاد على سماع: حاضر. إن شاء الله. كما تريد. وعندما تقررين تغيير سياستك وأسلوبك معه، سوف تصطدمين بحاجز استنكاره ورفضه لهذا التغيير. وهنا ستبدأ المشاكل."
بشيء من التردد المغلف بالتهكم أجابت:
"ألا تعتقدين أنك تبالغين كثيرا فيما تقولين؟"
"أبالغ؟ أنسيت ما حدث لصديقتك وجارتنا السابقة؟ ألا يكفي ذلك ليكون شاهدا على واقعية كلامي؟ هل تريدين أن تكرري مأساة صديقتك الحميمة؟ ألم تكن طيّعة ليّنة لزوجها. وعندما تمردت على حبسها داخل تلك الدائرة الضيقة من الأوامر والنواهي، التي كانت تستجيب لها، كادت أن تنفصل عن زوجها وتفقد أسرتها."
عندها انتبهت من غفلتها. ومرّت صور ما حدث لصاحبتها أمام عينيها سريعا. تزلزل كيانها. أفاقت من غيبوبتها. استشعرت الخطر. دارت بعينيها في وجوه شقيقاتها. دون وعي ضمتهنّ إليها وبكت.
◄ جعفر أمان
▼ موضوعاتي