عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد التميمي - الأردن

ثلاث قصص قصيرة


محمد التميميسمراء

تمددت أمامه بشعر أصفر ذهبي كسنابل قمح حان حصادها، وعيون زرق كسماء صافية في يوم مشمس، أبرزت له مفاتنها وسألته بلغة أجنبية وبلهجة متكبرة: "أتحبني؟"

تبسم مشفقا عليها وقال بلغة عربية فصيحة:

عيون المها بين (الرصيفة) والجسر --- جلبن لي الهوى من حيث أدري ولا أدري (*)

ثم قال لها بلغتها: "لن تفهمي ما أقصد، ولكن قلبي أسير سمراء الوجه، ذات العيون السود، لقد أحببتها ولن أنساها".

سألته مستنكرة: "أهي أجمل مني؟"

لم يستطع أن يكتم ضحكته، فخرجت عالية مدوية وقال لها: "نعم أنت جميلة، ولكنها أجمل منك".

احمرّ وجهها الأبيض، وقالت: "هنيئا لها على وفائك وإخلاصك وعشقك الجميل"، وهمت بالخروج ثم التفتت إليه وفي عينها دمعة تكاد تنزل وقالت: "هل لي أن أسألك سؤلا أخيرا؟"

"تفضلي بكل سرور."

"ما اسمها؟"

"عمّان."

==

إهداء إلى كل عاشق لعمان وأنا أولهم.


رفيقة

أغلقت حاسوبها الشخصي وبدأت بجمع أوراقها المبعثرة عن طاولة أمامها.
"لا تذهبي. أرجوك".

صرخة كادت أن تخرج من فمه، لكنه تراجع عنها في آخر لحظة، لتخرج على شكل أنفاس حرى.

لم يجلسا معا أو حتى يعرفا بعضهما البعض. ولكن جمعتهما الصدفة في قاعة كبيرة مع صديقة واحدة: الوحدة.

كان ينظر إلى عينيها، يتخيل نفسه يتكلم ويمزح ويحب ويكره معها، ولكن ما يلبث إلا أن يعود جسده ليجده متكوما على كرسي وقد هده التعب والإحباط.

أنهت جمع الأشياء وهمت بمغادرة الغرفة، وقف فجأة ونظر إليها، أراد أن يقول لها: "أرجوك أن تبقي هنا، فأنا أخاف من الوحدة، أرجوك ابقي إلى جانبي وأعدك ألا أكلمك حتى في أحلامي".

نظرت إليه نظرة حادة كأنها تقول له: "ابتعد عن طريقي أيها المجنون الحالم فأنا لست حلما، أنا حقيقة وحقيقة مرة".

غادرت القاعة على عجل لتترك خلفها خيطا من رائحة عطر فرنسي، وصدىً لحذاء مخملي.

أغمض عينيه، تنشق الرائحة بكل أنفاسه وحواسه. فتح عينيه ليجدها قد اختفت تماما.

تبسم والتفت من حوله ليتأكد أن أحدا لم يشاهده. لم يجد أحدا، ضحك بصوت عال. جمع أوراقه ووضعها في حقيبته ومضى يبحث عن رفيقة أخرى في مكان آخر.


ذكريات

جسد مرهق على سرير غريب، رائحة أجنبية تملأ المكان، لم يكن ولن يكون منزله، فقط كان ينشد بعض الراحة الجسدية، أغمض عينيه لتعود به الذاكرة إلى منزله حيث تربى ونشأ؛ وبكى وضحك؛ ولعب وحلم. تذكر الجلسات العائلية حول المدفأة. تذكر جلساته وحيداً. وسماعه المذياع أو مشاهدته للتلفاز.

فتح عينيه، وجد نفسه لا زال يقبع على السرير الأجنبي. أغمض عينيه مرة أخرى ليتهرب من واقعه المؤلم، نزلت دمعة من عينه، لترسم خطا جديدا في وجنته، التي توالى كل من الزمن والحزن والدمع على رسم الخطوط فيها.

نزلت هذه الدمعة لتصل إلى الوسادة لتموت هناك وتدفن إلى جانب المئات من أمثالها، دمعة حزن على فراق محبوب، ودمعة يأس في لحظة ضعف، ودمعة ودمعة ودمعة.

أحس بضيق في النفس، توجه نحو النافذة، فتحها ليشتم بعض الهواء، نظر إلى الحي فوجده هادئا هدوء المقابر، تذكر جارتهم السمينة وكيف كان صوتها يصدح وهي تنادي على ابنتها، تذكر أصوات الباعة المتجولين وأصوات زوامير بائعي الغاز المزعجين.

لم يكن يحب هذه الأصوات. حتى أنه لا زال يكرهها. ولكنه يعلم الآن أن تلك الأصوات كانت تشعره بالحياة.

أغلق النافذة، عاد إلى سريره، ألقى جسده المتهالك عليه، أغمض عينيه وأراد النوم لعله يلتقي بالأحبة في أحلامه.

وإني لأهوى النوم في غير حينه ... لعل لقاء في المنام يكون (**)

(*) جرى تحوير بيت الشعر الأصلي للشاعر علي بن الجهم لملائمة القصة. والرصيفة هي مدينة بجانب عمان وقصدت بالجسر هنا جسر الشيخ حسين الحدودي مع فلسطين فك الله أسرها.

(**) الشاعر قيس بن ذريح.

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011     A محمد التميمي     C 12 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • ما أعذب كتاباتك وما أجملها من مواقف
    رد على "رفيقة":

    هناك... عند تلك الزاوية الضائعة، حيث أقامتْ الوحدة على صدري جدراناً من الحديد...

    وهناك... قرب حلول الشفق... برزتَ أنت أمامي فجأة، نثرت أشياءك على تلك الطاولة الخشبية المهترئة، بعثرتها بكل حدِّة كأن شـِـجاراً ما بينك وبينها قد حصل...

    لم أكن أعلم حينها أنَّ روحك ننتزعها الوحدة... إلا عندما نظرت لوجهك الشاحب فوجدتـُــني كأنني أناظر مرآتي...

    لم أكن أدري أنَّ مرضنا واحدُ وهو الوحدة... إلا عندما لامست عيناي عينتيك الباليتي...

    كم هي قاسية الوحدة يا صديقي... انتزعتْ من قلبها الرحمة...

    خشيتُ أن أتألم على نفسي وعليك أكثر إذا نظرت إليك أطول، فلملمت نفسي وجمعتُ أوراقي المبعثرة أمامي...

    نظرت إليكَ نظرة أخيرة حادَّةً تتكلم عن أشياء توارت في الأشياء... ومعانٍ اختفت طي المعاني...

    فقد قررت أن أخرج من هذا المكان الكئيب متحفزة لوثبة أكبر... وثبة كلها تفاؤل وإصرار وأمل...


    • كلماتك تزيد قصصي حُسناً وروعة ... هذا رد رائع ولو نطقت "الرفيقة" لما استطاعت ان تنطق بمثله ... شكرا على الرد الذي يدفعني للمزيد من الكتابة. دمت بخير وعافية.

    • اسعدنى تلقى تلك القصص الحية نبضا وواقعا. قصص كلما قرأتها تشعر انها ابنة لحظتها الآنية .. تعبيرات جيدة وصور رائعة .. خالص التحية للقاص البارع محمد التميمى _ عاشق عمان المتيم _ ...

    • أستاذ محمد
      أشكرك على كلامك الرقيق، فعلا هي كذلك فهي دفقة من المشاعر لم تجد صدىً الا على الورق في لحظتها.
      وكما غنت فيروز ... "عمان في القلب"

    • رد على الرد بخصوص القصة الثانية .. رفقة ..

      هنـــاك وأنت تقفين كشجرة وحيدة مستوحشة في الخلاء..
      تنظرين حولك بكل جفاء وانت تلملمين ما في قلبك من وحدة وشوق وحنين وتستجدي القوة في نفسك لتغادري هذه الأرجاء..
      ستتعلق روحك بكل أمل ولن تغادري لما في قلبك من صفاء..
      ليس لشيء إلا لأنك ستعيدي النظر إلى الوراء، وتجدي صديقك مبعثر الأوراق ،ثائر العبارات ومبحوح الزفرات، فتعودي لتنتشلي ما بقي فيه من حروف وكلمات، وتمدي يدك صارخة هيـــا فلنحلق في السماء..
      هيــا لنغادر الوحدة معا فكنا وما زلنا أفضل الأصدقاء،هيــا صديقي فالغربة ستغادر أرواحنا وسنغلق الحجرات،سنمسح العبرات ونرسم على شفاهنا أروع البسمات.
      أن هيــا صديقي فالغد القادم لن يخلو من رفقة تحلو بها الحياة.. وداعا أيتها الوحدة يا من غرستي فينا الشوق والحنين ،ستسكني في عقلنا مع باهت الذكريات..

      ستعودي غاليتي لتحلقي عاليا بكل عنفوان وورائك كل ما فات.. ستزرعي دروبا من الأمل والتفائل بأن الغد الأفضل آت..
      وستثور روح صديقك وتعانق الزفرات ويعيد ما في القلب من همسات وخلجات ، فلولا صدق الوفاء لما عاد وفي جوفه دفء وتفوق وإصرار وأن ما فعله لم يذهب هبـــاء.

      سلمت يداك أخيتي فردك كان تفائليا جميلا يبعث القوة في الأرجاء.

    • أحسنت الرد أخيتي و أنا في انتظار الرد على ما كتبت، أنا جد سعيد لهذا التفاعل وان شاء الله نجد مشاركات لكن قريبا في هذه المجلة الغراء.

  • قصص قصيرة تنقلنا، من حب إلى حب، و من معاناة إلى معاناة، ويبقى الترياق خليط من أمل و حلم.

    سمراء أعجبتني كثيرا، نهاية جميلة و غير متوقعه، شكرا لك فأنا أيضا أحبها، ولي فيها ذكريات عذبه.

    أتمنى لك عام مكلل بالنجاح و الإبداع.


  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
    أخي القدير محمد التميمي..
    مجموعة قصصية يلفها شوق وحنين ووحدة تأخذ من أضلاع كاتبها مسكنا مؤقتا من الغربة ومسكنا دائما من الإبداع وجمال الوصف..
    تشويق في ثنايا قصصك تبحر بنا لنصل إلى نهاية غير متوقعة لتزيد من مذخور الشوق والحنين اللذان يسكنان جوف حياتك أمام أعيننا..
    وتشبيهات بسيطة معبرة تلامس مسامعنا لتجعلنا نندمج بطريقة سرد تغنى مخيلتنا الخصبة بلقطات مختلفه مما يزيد جمالية الموضوع وبث روح التخيل في جوفنا بأكثر من طريقة..
    أخي العزيز..
    في قصتك الأولى سمراء تتدافع الصفات الجمالية للشقراء والسمراء بوصف موفق لما هناك تشابه بين الشقراء والبلد الغربي ، والسمراء وما ترمز له من بلد عربي..
    فللجمال العربي بكافة النواحي الفخر والعز والإجلال ، ورغم كل المغريات في البلد الغربي إلا ان الوطن هو من يكن له كل مشاعر الحب والحنين والشوق بإيجابياته وسلبياته كما ذكرت بالقصة الأخيرة ذكرى.
    أما بالقصة الثانية رفقة فأحب أن أقول بكل ما في وقتك وروحك من وحدة وغربة ستعود لوطنك لتملأ كل أرجاء حياتك ومكنوناتك من حب صادق ينتظرك ومن شوق أهل يحتضنك ومن روح محبة تلف شخصك .


    • وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...
      أخيتي العزيزة، كلامك جميل رقيق فاق ما يمكن ان يقال للشكر عليه.

      أنا سعيد ان كلماتي عبرت عن مشاعري لحظة كتابة هذه القصص، وقد بدا ذلك جلياً من فهمك لما عنيت في قصة سمراء.
      الوطن وحضن الأم مكانان لا يمكن للانسان نسيانهما مهما كبر ومهما تغرب. اللهم ردنا الى أوطاننا ورد أوطاننا الينا.

  • أعتقد أن القصه الأخيره ينقصها عنصر المفاجأه ولايجد القارئ فيها لحظة التنوير بعكس القصه الأولي .تحتاج الي حبكه دراميه مقتضبه حتي تشد القارئ اليها .. ودمتم بخير


في العدد نفسه

بحث: التخييل عند حازم القرطاجني

بحث: الحياة الخاصة للإمبراطور الروماني تيبيريوس

قمــر ينــادي بــدرا

أحملُ الأرضَ الصغيرة مثل كيس من ضباب

كلمة العدد 66: عن الأدباء والمفكرين