عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

المطاردة


لا زالوا يقتفون أثري، وكلابهم تعوي من خلفي، وأنا لا أزال أعدو، بل أقفز لاهثاً، أنفاسي متقطعة، ضربات قلبي متسارعة، تكاد تخرم أذنيّ من شدة هولها، ليتني برقاً لاختفيت وأعجزتهم عن الإمساك بي، ليتني رعداً لأخرست أسلحتهم بصوتي، لقد أعياني التعب وسأرتمي حتماً على الأرض تحت أقدامهم، وسأكون لقمة سائغة لأنياب كلابهم.

أقبل الليل وأنا لا أزال طريداً منذ الظهيرة، حيث كنت أنتظر وصول الباص، عندما خرقت مسامعي همهمات نباح، التفت فرأيت رجالاً ملثمين، منتشرين في ساحة الباصات، مختفين بين الزوايا. جف ريقي، وبدأ العرق الغزير ينهمر منّي، شاهدت واحداً من الملثمين يحدجني ببصره وكأنّه يبعث برسالة ملغومة لهم عنّي، تضاعف ارتباكي وروعي، يا إلهي! ماذا يريدون منّي؟ ثمّ سمعت النباح، لا أدري من أي زاوية هاجمني، وقعت حقيبتي من يدي، وبدأت أتلعثم وأنا أتلو آية الكرسي والمعوذتين.

يداي ترتعشان وخُيّل إليّ أنَ الباص لن يصل اليوم، فاندفعت هارباً. أنا لم أفعل شيئاً، ماذا سأجيبهم عندما يكبلونني بأطنان من الحديد ويقتادونني إلى الظلمات بعد أن تنهشني كلابهم وآلات تعذيبهم؟

أنا إنسان عادي، لا أتكلم عن أحد، لا أتعاطى أي نوع من الممنوعات، ولذت بالفرار لأنني أخاف من الكلاب، لن يصدقوا أنني عانيت الأمرّين من هذه العقدة النفسية منذ طفولتي، نعم أنا أخاف الكلاب ونباحها، أخاف كل الكلاب حتى لو كانت تنحدر من كبرى السلالات العريقة في العالم. لا أحب الكلاب، لكني أحبّ النّوارس، لا لن أقول هذا، ربما سيسيئون فهمي.

ربما يكرهون النّوارس أو يبغضون لونها الأبيض أو حتى السماء أو البحر، لا أعرف، أعرف فقط أنّني أمقت الكلاب، هل هناك مشكلة أن لا أحبّ الكلاب؟ لكنّي لا أعذبها، ولا أشمئز منها، في كل صباح أمرٌ بقرب الكلب العجوز، الشريد، ذي الجسد الضامر، الغافي قرب موقف الباصات، لا أدنو منه، أكتفي فقط بالابتسام له وأدعو في سري ألاّ يدنو منّي.

لن يصدقوا كل هذا، وسيجدون حتماً ذريعة للإيقاع بي، لا لن أعترف لهم بشيء لم أقم به.

وتابعت الهرولة والناس والرجال المجهولون والكلاب يلاحقونني، قطعت الشوارع الواسعة ثمّ الضيقة ثمّ الأكثر ضيقاً حتى وصلت إلى هذا الجحر في الظلام، الربّ وحده ساعدني للوصول والاحتماء بهذا المكان، مكثت ساعةً في الجحر، وتلتها ساعةً حتى اختفت الأنوار، وتسربت الظلمة وعمّت الكون، وخفت الجلبة، لكن النباح لا زال في الخارج، إنَه يخفت شيئاً فشيئاً كلما وسّعت الظلمة دائرتها، وبدأ يتحول إلى ما يشبه الأنين.

هل هذه خدعة يستخدمونها للإيقاع بي؟ أخرجت رأسي قليلاً وحدّقت جيداً، لم أجد أحداً في الخارج، لا لن أخاطر بالخروج، سبق وأطلقوا نيران أسلحتهم عليّ، حمداً لله لم أصب بسوء، ظللت أحدّق بالمكان، رأيت دماءً تغطي الأرض مكثت، وانتظرت طويلاً، لا زلت أسمع الأنين، تشجعت، وخاطرت بالخروج من الجحر، تتملكني رغبةً بمعرفة هوية الجريح، ربما يحتاج لمساعدة، أنفاسه تتبدد، وأنينه يتلاشى، تقدمت أكثر فأكثر، يا للهول! هو أيضاً كان يتقدم وحده باحثًاً عنّي يريد حمايتي، وطَمْأنتي، مضحياً بحياته من أجلي رغم جراحه البالغة، إنّه مصاب بطلق ناري، وأيضاً بعضّات كلاب شرسة مختلفة عنه.

دنوت منه لأول مرة دون خوف، ولم أكتفِ بالابتسام له، بل وضعت يديّ على جسده الضّامر، بكيت بحرقة، واعتذرت منه قبل أن ينقطع أنينه.

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011     A فنار عبد الغني     C 7 تعليقات

6 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

بحث: التخييل عند حازم القرطاجني

بحث: الحياة الخاصة للإمبراطور الروماني تيبيريوس

قمــر ينــادي بــدرا

أحملُ الأرضَ الصغيرة مثل كيس من ضباب

كلمة العدد 66: عن الأدباء والمفكرين