ربا الناصر - الأردن
الحقيقة الغائبة
بخطى سريعة عبرت الشارع المزدحم بالسيارات. وفي مساحة ضيقة، اتخذت مكانا لي في مقهى صغير، هربا من قيود الواقع المحيط بي ورغبة مني في إطلاق العنان لأفكاري في التجوال في روحي، فالحياة غدت رتيبة بالنسبة لي، ولم أعد أشعر بطعم التغيير في كرور أيامها المتماثلة الأحداث، لكن هذا المقهى هو القمة التي أعتليها، لأشرف منها على جميع أحداثي السابقة.
كان الجو حارا، يعبق بدخان النرجيلة المتكدس كجدار يكاد يطبق على أنفاسي. كنت أجلس في حينها بالقرب من النافذة المطلة على الشارع أتتبع من خلالها حركة المشاة على الطريق، وبعد أن مللت من النظر أسدلت جفوني متكئا على النافذة، محاولا الاسترخاء ريثما يجلب النادل قهوتي، وقد علت في مخيلتي الكثير من الأفكار المتضاربة حول تسلسل حياتي وخلوها من طعم التغيير، نعم التغيير لحياة شاب أعزب، يقطن في شقة صغيرة تتحول إلى جحر صغير مع مجرد شعوره بالضيق من الوحدة، فكم من مرة أطل من نافذتي فأجد أغصان اللبلاب المتفرعة عليها كأنها ستنقض علي وتخنقني.
قررت المجيء إلى هنا للتفكير في حياة جديدة، فبعد تحطيمي لكل المرايا المنصوبة أمامي التي مللت حوارها اليومي. قررت المشي على أرض تنبت قصائد حب وأمل، وتغيير دقات الساعة المدوية في قلب المكان إلى نغمات موسيقية تدخل الصفو وتعكس قلبا ينبض بحب الحياة المتجدد في عروقه. لكني حتى هذه اللحظة، لا أعلم كيفية التغيير.
أفقت من غمغمة الأفكار هذه على صوت فنجان القهوة الذي وضعه النادل أمامي. وضعت قطعا من السكر، لا أذكر عددها ربما اثنتين أو أكثر، وقلبت الفنجان بالملعقة، وبعد أن وضعتها جانبا ارتشفت منه القليل من القهوة. كنت أقلب بصري بين زوايا المكان متأملا النقوش المزخرفة على جوانب جدران المقهى، حتى استقر بصري عليها مراقبا لحركاتها وهي تحرك خصلات شعر طفلتها الصغيرة، مداعبة إياها بيد بدت كنسائم الربيع المداعبة للعشب الأخضر. عندها فقط رنت في أذني كلمة (أم). نعم هذه الكلمة المصهرة لكل جمود وعزلة، فهي لمسة دفء وتجسيد للاحتضان، حدثت نفسي للحظات قائلا: "أهذه بداية تغيير المشوار الرتيب في حياتي؟"
لكن وبلا استئذان، سحب كرسيا وجلس قبالتي، قاطعا عليّ حبل أفكاري المسترسل. نظرت إلى وجه عباس وقد ارتسمت على جبينه تقطيبة أجهل سببها، فبعد أن سألته عن غضبه، أجاب بعد ابتلاعه لريقه المبتل بالملوحة: " تشاجرت مع خطيبتي حول مكان حفلة الزفاف فهي متشبثة بمكان مترف تكاد تكاليفه أن تخترق جيوب بنطالي، ولا مناص من تغيير رأيها. لا أعلم لماذا تتبدل وتنكر الجميل لمجرد خلاف بسيط بيننا. لقد سئمت الأعذار ونفد صبري من مقارناتها التافهة مع مثيلاتها من بنات عمها و..."
وأكمل حديثه عن مشاجرته لكني لم أكن معه، فلقد تبين لي أن هذه الدنيا ليست جميلة جدا كما خيل لي، بل يحفها الكثير من الصعوبات. وما أن أنهى كلامه حتى هم بالنهوض وتركني وحدي. حتى الأم وطفلتها غادرتا المقهى، لأصبح رهين فكرة جديدة أو بالأحرى، رهن حقيقة غابت عن البال بفعل تلاهي الحياة. لكني بقيت أفكر فيها حتى مساء ذلك اليوم حتى ابتلعها صمت الليل في جوفه محتفظا بها حتى يحين الموعد ويخرجها النهار إكليلا ماسيا، أفخر به بقية عمري، لكني لا أعلم متى.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ