غالية خوجة - الإمارات العربية المتحدة
مخيلة ماطرة
ليس المطر وحده من ينزع عن المكان صحراويته، بل الغيمات المنطلقات من روحها المتفتـّـحة مثل لوتس تغزو الموج لتذوب مع المكان والزمان، فتظهر الرائحة البخورية، وتتكون الرمال الخضراء، فلا صوت الماء يتوقف عن وشاياته الغريبة، ولا صمت حبيبها يصمت عن لهجات الوقت.
المطر زائر غريب ومفاجئ للشارقة، مثلها تماماً. والنخيل مشتاق لفوضاها الجديدة. نوارس البحيرة تزقو. وظلها المنخطف من الشمس تتخطـّـفه الكلمات. الموج يصطدم بالبغتة، فتبدو الصخور كالأرواح أشد طهراً. هي تتهيـّـأ ذلك، والغيب يسحب الغروب إلى الجهة الثالثة من الشروق، فتتكسر المواقيت على المواقيت، وتنولج الأشياء في الأشياء، ولا يبقى في الفضاء سوى أبجدية من وهم وغيم وضباب واحتمالات.
ينشطر المشهد، والطفلة ساحرة العصور تقرع الملحمة، فتنبت الموسيقى نبضة، عشبة، إعصاراً، ولا ينفجر من الدلالات إلاها.
الطيور المروحية الأجنحة تلجأ إلى عزلة النخل. النخل يلجأ إلى توجسات الموج. الموج يلجأ إلى أعماقها. وهي... أين هي؟ لا، لم تختف. لا أشك بأنها انتشلتني وصرنا المطر.
المطر إلى الأبد، والماء يتخبـّـط في ألواح المصير، والياسمين النائم مع نزار قباني يدون الأسرار.
ليست القبور الصامتة، بل الضمائر.
لستُ أنا الضائعة، بل الأرض.
وليست السماء هي السماء.
فلماذا وافقنا جميعاً على ما قاله هوميروس ذات إلياذة: "الحياة هي الحياة؟"
لا يعقل أن تكون الحياة هي الحياةـ وإلا ساد التناسخ والتقمص والتشابه، ولم يبتعد عن هوميروس الزمان، ولم نبتعد عن الزمان.
وقت آخر لماركيز وهو يـحتضر. مئات من العزلة لمائة عام من العزلة. والطيف يتسرب منا إلى الكلمات.
يا الله، متى سندرك أرواحنا الراحلة مع مراكب الغيب؟
متى أرواحنا ستدركنا؟
تبعثرت اللوحة، والمشهد امتصّ الألوان لتعود الخلفية بيضاء، أو زرقاء، أو كما يراها القارئ.
هل قلت: مقطوعة فيردي ماطرة مثلما يحدث قرب نافذتي.
المطر قبل مطرين، لم يكن هنا.
المطر جاء مع رنين غربتي في المطار.
المطر الحالم بأنشودة السياب لم يأت بعد.
هنا، الطمي الرملي غارق بأشباحه. وهنا ثمة عاشقان يتبادلان النبض واللمسات والآلام.
هل يشعر الغارق بالوميض بما يغرق في الرمال؟ إنها الحواس حين تبتعد عن لغتها الأولى، لتكتشف طبقاتها المجهولة، لكنها غير المعتمة تماماً.
نداء مسحور يخطف هذيان الرحيل، ويضيء حولي.
سأمنح نفسي يوغاها اللونية، الموسيقية، والكشفية، لعل الغائب يقرؤوني.
عجلات السيارات تمضي بين الوحل والمطر والرمل الغاااااارق. وأنا أمضي في غرقي مع اللا تناهي.
أهبّ على نفسي. الحرارة في ارتفاعها الروحي، والقلق يخز أطرافي، فيتأرق قلبي، ولا تتراجع المناسك.
يستعيد الموج وجهي، لا يخشى مراياي لأنه يوقن بأنني لست نرسيسا، ولا سيزيفا. والصخرة التي يحملها غيري تجبره على العودة إلى ذات المكان حيث السفوح. سفوحهم أبدية، وذراي الأبدية. فكيف سنلتقي؟
وجهتُ وجهي شطره، فلم تسمع الصخور البشرى.
واستدرت لعلي أجدني. كان الفراغ عميقاً، وصدى الصدى يلسع النجوم، فتصيح المجرات: "أثينا. أنت أثينا."
الفراغ يلسع المجرات، فيصيح الكون: "أنت تيثيس."
الكون يلسع كوني، فأصيح: "لست هيلين ولا أثينا ولا تيثيس، وإن بدوت كذلك."
تحتار جبال الألب بصوتي، فتخمـّـنني الماء الناري بلا هواء ولا تراب.
ترتد يوغا الرؤيا عليّ، فأسرق مخيلتي من المطر. ترتفع أناملي عن لوحة المفاتيح. أرتشف ما لا تقوله القهوة، وأنتبه إلى دخان سيجارتي.
الرعد يخرج عن المشهد. الجُـمل تتكاثف بين الغيوم. رماد سجائري يختلط مع رماد السماء. لا فاصلة ولا نقطة. لماذا ترفض اللغة أن أنام؟
◄ غالية خوجة
▼ موضوعاتي