أحمد العبيدي - العراق
كاليغولا
كانت المدرجات تموج بالهتاف العاصف لهذا الفوز الساحق لدرجة مفرطة في الأهمية. الصراخ يصدر من جميع الاتجاهات. يدور حولها. تتفاعل معه أحيانا وتضمحل أحيانا أخرى. الأيادي ترتفع ملوحةً كموج البحر فتسد عليها حاجب الرؤيا، حتى تضطر للوقوف على أصابع قدميها لتتبين ملامحه وسط العواصف التي تقطع عليها أنفاسها تارة، كما تقطع عليها أحلامها وتأملاتها تارةً أخرى. اخترقت الجمع بكامل رونقها كشعاع شمس في ماءٍ بارد، ودارت بعيداً حيث يخيِّم السكون على المكان، وزرقة الصوت قد غدت اشدّ قتاماً، بينما النظرات كانت مسمرة في عينيه، فلم تعد تسمع أو ترَ أحدا سواه.
"ستكون لحظة حاسمة."
"على مفترق الطريق؟"
"الفوز لصالحي."
"أشك في الأمر."
الوقت بات يداهمها. لم يبق هناك من متصفحين عبر الشبكة يبادلونها الآراء عبر نوافذها المفتوحة. أسندت ظهرها على المقعد الدوار وشهقت أنفاسا عميقة حرّى. كانت تشعر بتعب خفي يدب في أوصالها من تراكم الأحداث، والمشاعر، والصور التي مرت بها. عالم متأرجح يتنامى حولها. كانت تتيه فيه أحيانا، وينسرب بداخلها شذرات منه تتناثر دقائقه في الفضاء أحيانا أخرى. ألقت بسترتها على الكرسي، ونهضت ترشف جرعات ماء مثلج عندما رن جرس الهاتف ليعلن لحظة هروب الخيال، فزميلتها بانتظارها تحت لتصلها بالمضمار بأسرع مما تريد.
استلمت التذكرة على عجل لتفتش بين سطورها بنهم واهتمام باحثةً عن شيء يدور في أم رأسها، ويختلج به فؤادها بشائبة من القلق والارتباك. أورقت ابتسامة على شفتيها البنفسجيتين بلون الحذاء وربطة العنق التي ترتسم على صدرها النابض بالأمل الفيروزي والابتهاج الصارخ، لقد ظفرت بضالتها. وفيما كانت الثانية منشغلة بهموم الطريق ومعاكسات الآخرين خلف مقبض القيادة، راحت هي تمطرها بعبارات الشكر والثناء على تلك الخدمة اللطيفة التي أسدتها لها.
"الوغد!"
"اجتازيه من الجهة اليمنى."
"يعاكسنا بنفس الاتجاه."
"لن نتأخر."
اتخذت طريقها وسط الحشد الزاخر على جانبي الممرات الأرضية باتجاه مقاعد الدرجة الأولى، فقد كانت فضيلة زميلتها خدمة معتبرة، وسوف تتيح لها متابعة السباق عن كثب، وطمأنينة، كما أن الهتافات لن تقاطعها بعد. المراهنون اتخذوا لهم موقعا بجانب المضمار بحيث يتيح لهم متابعة السباق عن كثب، فيما كانوا في منأى عن الجمهور، والحكم، وكاميرات التلفاز، والمراقبة.
المتسابق الأول يعتلي ظهر جواده، وينحني رافعاً قبعته لهيئة التحكيم، ثم متخذاً طريقه عند نقطة البداية. سألتها زميلتها مرة عن فارس أحلامها الذي ترغب في اختطافه، والقفز به بعيداً عن العالم، فأجابتها بأنها تريده فارساً حقيقياً على غرار فرسان ذي قار وبني حطين، فارساً مدججاً يهزم الظلام على أرض اليقين.
وصل الفارس عند العارضة الأولى ليجتازها بخفة كاد خافقها ـ على أثرها أن يطير من بين ضلوعها. "رباه! كن معه، لا عليه". حتى أتم جولته الأولى، راح القلق والتوجس يتقهقران من حولها، بينما كانت إيقاعات صدرها تخف رويداً رويداً.
"إنها فكرة ساذجة."
"وإن كانت الأحلام ساذجة؟"
"تتلبسكن في سن المراهقة."
"فقد تصدق معنا!"
"كأفلام السينما فقط."
سألت مرة احد المدردشين ـ بعد أن أحست أنه يتودد إليها ويكرر زيارته لغرفتها أكثر من مرة ـ فيما إذا كان يهوى ركوب الخيل، أو يتابع سباقات الفروسية على الأقل، فكان جوابه بأنها لعبة محفوفة المخاطر، وإنما يتابع أخبارها عبر الشاشة للاستمتاع وشغل الفراغ حسب. فاسقط الرد في يدها حتى أنها أخذت تجيل نظراتها في الرسالة وترمق صورته المرفقة بالجوار. تمنت لو أنها تستطيع المثول أمامه كي تتمكن من صفعه على قفاه، لكنها لا حول لها ولا قوة، ولابد أن تتلقى الطعنة دون أن ترد، فقط اكتفت بأن تضع عنوانه في قائمة الحظر ولن يتمكن من إثارة مكامنها بعد.
كانت متابعة المضمار متعبة، ومثيرة بالنسبة لواحدة مثلها. فارسها يجتاز العارضة الثالثة بسلام. علت باقات التصفيق من جميع سفوح المدرجات بلا هوادة، "تقدم أيها الفارس، بلى! تقدم، واخترق كل الرؤوس، تقدم واسقط كل الشعارات الزائفة، بدد الظلام الحالك بنور طلعتك البهية، فأنك سوف تنتصر. أنت المنتصر".
عندما التقت به أول مرّةٍ اخبرها بأنه انضم إلى النادي منذ نعومة أظفاره بوساطة احد أسلافه من الأعضاء المؤسسين للنادي. فهم عائلة تتوارث الفروسية كابراً عن كابر، وأمنيته أن يشتري جواداً وعدة سباق وأن يمتلك مضماراً خاصاً، وتكون هي المعلِّق، والجمهور، والحَكم، وسوف يزجي لها التحايا كل بكرةٍ وعند كل أصيل.
"مصيري يتقرر هذا اليوم."
"أخشى أن يكون فارسك دون كيشوت!"
"اللعنة عليك، أمسيت تفكرين مثلهم."
"أخشى عليك ..."
"سأغير منظور العالم هذه الليلة."
"فحسابات الواقع غير حسابات التمني."
شعرت أنها ربما قد تاهت في هذا العالم المتناقض، فراحت تفتش عن مناخ شفافي تغوص من خلاله في أعماق الكون لتتمكن من تشكيل عالمها الخاص، كي تحيا، وتعشق، وتنتصر به ومن خلاله. الهتاف اخذ يعلو مرة ثالثة. الفارس بات على وشك الفراغ من جولته الثانية. شعرت بنشوة عارمة تنطلق من أعماقها وتسبح في مخيلتها بشفافية. اللحظات باتت تمر ببطء وتؤدة شديدين. رغبات كامنة أخذت تطفو على السطح، وبين آت وآت كانت تنتابها بعض الهواجس الرمادية، وتشعر وكأنها تحلم في سراة النهار.
الفارس يبتعد عن منصة التحية، ويتجه صوب الحشود التي تهتف له بالعز والخلود. يقف على بعد خطوات منها، تضربها الأفكار كما الأمطار تضرب غاباً استوائياً، وتجتاحها الظنون كما الحرائق تجتاح مملكةً امزونية. الصورة باتت تهرب من أمامها مرات ومرات، ولكنها دائماً تلحق بها بإصرار شديد. أعادت تشكيل الصورة في عينيها مرة ثانية علها تتشرب عنفوان اللحظة. يرفع قبعته باليد اليسرى، وينحني إمامها مقدما التحية مشفوعة بابتسامة شفافة مسربلة بنشوة الفوز. في تلك اللحظة لم يعد للعالم من حضور خلا ذلك الرجل التافه ومدرِّستُها العنيدة والباقي، "فليذهبوا الى الجحيم". أرادت أن تطلق صرخة مدوية بتلك الوجوه، لكنها تمالكت نفسها على عجل، وبشيء من الارتباك استندت ـ والخجل يلفها ـ على قدميها لترد له التحية بالمثل.
" تستحق أن تكلل بالغار". كانت لحظة حاسمة تهز عالمها الخرافي المتشكل على أشلاء الماضي المتناثر بين هذا وذاك حتى استوى بهذا الشكل، وراحت الرايات ترفرف فوقها معلنة النصر المظفر على الأعداء. لقد تمكنت من الرد على الرصاصة التي أطلقت عليها قبل سنوات، ومن دحض نظرية العالم المادي دحضاً قاطعاً وأمام الملأ. ترجل الفارس عن جواده وتقدم نحوها. كان يحمل وردة حمراء يرميها على شرفات المعشوقة، وهي تشاركه اللحظات الحاسمة. وما أن أنهى التزامه الخارج عن المألوف حتى عاد إلى نقطة البداية ليكمل آخر صولة من صولات المجد والبطولة التي على أثرها سوف يحصد الجوائز والأوسمة التي باتت تنتظره.
تلقى صافرة الحكم ثم انطلق على ظهر جواده ـ والهتافات تعلوه من كل حدب وصوب ـ يحدوه الأمل بحسم النتيجة لصالح محبوبته. في هذه اللحظة شعرت بأنها سوف تتفاعل مع الصورة التي أمامها، فكان لا بد أن تنهض على قدميها، وتلوح بالوردة التي كانت معها، لكنها سرعان ما عادت إلى مكانها بعد أن عاد إليها قلقها وتوجسها. الفارس يجتاز العارضة الأولى، ثم الثانية، ويتخذ طريقه باتجاه الثالثة وهي الأخطر كونها الأعلى بينهن، وعندما اقترب منها شعرت بأنها تقف لاإرادياً، وفي لحظات مرت على عجل كان وعيها غائباً، وما أن استفاقت حتى كان الهدوء يخيم على المكان والفارس ملقى على الأرض بينما راح الجواد يصهل بجانبه محاولاً النهوض مجدداً بعد أن اصطدم حافراه بالعارضة وقنطر فارسه من على ظهره في اللحظة الحرجة.
"توقعي أن يخسر تلك الجولة."
"لماذا تعدينه؟"
"خذي أسوأ احتمال."
"بل لن أتخيل هذه اللحظة إطلاقا."
الصمت كان سيد الموقف، فلم يجرؤ أحد على أن ينبس ببنت شفة لبرهة. الأعلام نكست، والرايات طويت، والذهول والحيرة يتقوقعان في أروقة العيون والمدرجات راحت تمتص الغضب الذي يغلي في البطون. لقد أصيب الجميع بخيبة أمل. المراهنون انقسموا إلى قسمين، بحيث أن مجموعة باتت فرحتها لا توصف، فيما خيم الحزن على المجموعة الثانية ممن افرغوا جعبهم مما كانت تحتشد به من أموال.
السهام أخذت تنطلق من مكامنها وتحدث تمزقات عميقة في صدرها المثقل بهموم اللحظة. الصداع راح يدب في رأسها وهي تنسل وسط الجمع على عجل مثقلة بالخيبة والخسران المبين، بينما الأيادي بدأت تلوح من جديد تحيي فارساً آخر.