محمد ياسين رحمة - المغرب
مطر الكلام
البارودة الصدئة تطلق ملحا والرصاصة تلهث تائهة في خيط دخان يمتد من فضاء مكاني إلى حيث يشيع عطرك. دم ينزّ من جرح على حائط أسنده منذ عمر، والساعة الرملية أعلنت عواصفها والتهمت عقارب كل الساعات التي تتكتك.
نهار أملس آخر يتزلج على ربوة العزلة، والغيم يسوق الغيم إلى أمكنة ليس فيها نبض ولا ظمأ.
البرق الخاطف يصر على طعن خاصرة الراعي. البيارة استسلمت للجدب واليباس وتحن في شحوب إلى العشب الندي، وثدي العنزة السوداء يتدلى في ذبول ولم يعد يدر حليبا أبيض يزرع في الجدي المسكين شهوة القفز والحياة.
أنا أراهن على موتك سريعا خارج حدود الزمن الفيزيائي، كي أتوحد بظلك في مكان لم تدنسه سلطة الساعات، ثم آوي إلى الحياة ملتحفا أناك.
العصا تهش الذباب الأزرق الثقيل ولا تهش على العنزات، والراعي الذي تلبسه الأسمال صار مسكونا بالخوف اليومي من الانزلاق على حواف النهارات الملساء. آه لو تمارسي الموت مرة واحدة وتتركيني أحجز كل ذاكرتي لدهشة عمرك. هيا لا تترددي ومارسي الموت بشبق العصافير لحظة إزهار القرنفل، كي أعلن عليك جنوني الذكي وأمنحك شهادة بضلال العقل.
يعترش الراعي اليباس ويستسلم لطعنات البرق. يمد يده الرعشى إلى ناي ورث أجيالا من المواجيد. يغتصب الراعي من نايه ما تبقى من أنفاس ليعزي العنزات والجدي والبيارة. تفيض الأنفاس في القصبة فتنزف الروح بين الثقوب ويتدفق الراعي جدولا من الأنين.
يستمطر الغيم ويطبب جراح الخاصرة المطعونة بالبرق. يكفي ترددا ومارسي الموت لمرة واحدة، سوف تستلذين طعم العبور من زمن إلى زمن، وسوف تدركين سريعا أن الحياة ليست جديرة أن نحياها إذا لم نحرر الإنسان المأسور في شرانقنا الطينية، وإذا لم نضع خطوة أولى على عتبات المسك التي تسوق إلى الكهف المضاء بفوانيس الطّهر.
لا تترددي إن التردد يصنع من أحلامنا أفيون العجز والانهزام ثم يشربنا بنرجيلة ماؤها مقطر من زهرات أعمارنا.
هيا علينا أن نرحل أنا وأنت وما تبقى من صليل وصهيل وكتب. علينا أن نرحل قبل أن تستفيق غيلان الساعة الرملية وتعيدنا إلى أسر التكتكة والعقارب، ولا تسأليني إلى أين؟ سوف نسلك الدرب الذي تأتي منه رائحة الذين ماتوا والذين وُلدوا ميتين والذين سيولدون أمواتا.
ذئب في الناحية يجرجر النعاس خلفه. تطارده رائحة موت نتنة. ينتفض الراعي ملدوغا بثعبان الفجاءة. ينتصب الجدي وتطلق العنزات آخر ما تبقى من أنفاس الصياح. يصحو الذئب وتبرق عيناه. تخلع البيارة لحفة اليباس. يرمي الراعي نايه ويعلو الصياح. مطر، مطر، مطر.
علينا أن نرحل فلا تترددي، يجب أن نعيد الرصاصة إلى البارودة ونحظى بشرف الطلقة الأولى صوب الحائط الذي ينزف.
أعلني عليّ التوحد وانهمري في دخيلتي. شدي على النبض بقوة وازأري كما لبؤة افترستها شهوة الإنجاب. لا يجب أن نكون اثنين على مسلك لا يحتمل أكثر من قدمين حافيتين وحلم واحد ونصف عقل.
وهب الراعي جدي العنزة للذئب، ثم أولم العشيّة لقهوة الشيح. الظمأ لم يعترف بالمطر الهاطل، وأنا وأنت لم نصر اثنين. عنيدة أنت ومجنون من يغازل عطرك في لحظة عري بلا مرآة.
هل تذكرين؟ لم يكن لنا ماض ولم تحتوينا السماوات، أنا لا أذكر كيف التقينا، ولكن قطط السهو كانت تحشو مواءها في الكلمات حينما كنت أنا وأنت نصطاد الحروف ونطرّز تيها يليق بقادم إلى الانتفاء.
عاد الراعي إلى زريبة السكون. غابت العشية في سترة الليل. الآن في وسعي أن ألغي العالم وأهاجر فيك من نافذة أفتحها وتفتحينها فيدخل القراصنة واللصوص والجواسيس.
النوم المتصعلك على حواف الجفنين يرقب النافذة، ومطر الكلام يهطل من غيم التفلسف والجنون والدعابات.
هل تذكرين؟ رحلنا إلى آخر التيه ولم نقطف زهرة واحدة للفجر الذي يئن بين أحضان الراعي. إنك لا تذكرين شيئا، فليس للنافذة ذاكرة، وليس لمطر الكلام انتماء. هل أقول صباح الخير؟
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ