عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربا الناصر - الأردن

رجل غني، ولكن


اسمي راجي، أو هذا ما اعتدت عليه عند مناداتي. أعيش في هذه المدينة منذ مدة طويلة حيث أملك فيها مصنعا للصناعات الغذائية، وهو مجهز بأحدث المكائن، لذا أعد أغنى رجل في المدينة، نعم أغنى رجل، فلقب الثري هذا فتح أمامي حب تدافع الناس لإلقاء تحياتهم علي في كل صباح، فالجميع هنا يحسبني أنني أسعد إنسان في الحياة، وهذا ما أقره بالفعل، لكن الأمر يشوبه القليل من العوائق المنصوبة أمامي كإنسان أملك مشاعر وإن حاول الزمان إخفاءها تحت مادياته وتلاهيه المتعددة، إلا أنني من حين إلى آخر أحاول تجديدها ونفض الغبار عنها. أعترف أنني رجل غني ولكني إنسان.

أسير على الرصيف، قاصدا مدرسة للأطفال، تقع بالقرب من بيتي، هي مدرسة خاصة ولست أقصد مدرسة تتبع القطاع الخاص بل مدرسة خاصة لأطفال التوحد، وهي تعد المدرسة الأولى والوحيدة في هذه المدينة. كان ابن أخي ينتظرني في الساحة وأنا أعلم أنه لا يستطيع تمييز أنني أحبه، فهو الفرد المتبقي لي من جهة أخي الذي رحل وزوجته إثر حادث مؤسف، ويتركان من بعدهما أجمل ملاك يعيش في عالمه الخاص، ينطوي تحته ضمن قدراته المتواضعة.

رمقني من بعيد، حسبته لأول وهلة سيرفض الذهاب معي كعادته، لكنه اليوم ارتمى في حضني- وأنا أعلم أنه نادرا ما يفعلها. كان يرمقني بنظرة، فهمت منها أنه يحبني، أمسكت يده الصغيرة وضممتها جيدا، ثم مضينا نتمشى في الطريق. كنت أحدثه طيلة الطريق عن أشياء جمة، أعتقد انه لم يتفاعل معي في معظمها، لكني متأكد أنه إنسان له ذكاؤه الخاص، وأنه إنسان لا ذنب له أن خللا أصاب مناطق النطق والذكاء الاجتماعي لديه.

وصلنا إلى البيت حيث كانت زوجتي في استقبالنا، وقامت بضم هاني إلى حضنها، متلمسة بعض خصلات شعره بحنان، وأما أنا فاستقبلتني بقبلة خاطفة على وجنتي. جلست بعدها في غرفة الطعام أنتظر مأدبة الغداء، محاولا الاسترخاء قليلا في ظل بعض الضجة المفتعلة من زوجتي وهي تحاول إشراك هاني في اللعب معها، لكنه يرفض ذلك. كانت زوجتي حانية عليه كحنو الدالية بفروعها الدقيقة، تأملت وجهها للحظات. متذكرا أيامي الأولى معها.

كنت في إحدى المرات مارا بالقرب من إحدى المحلات المتخصصة في بيع الملابس النسائية. استوقفني وجود شابة جميلة تُلبس تماثيل بلاستيكية ثيابا جديدة على واجهة المحل. كانت رشاقة يديها تشدني وهي تلبسهم أفخر الثياب بخفة وبراعة. على الرغم من ارتدائها ثيابا بسيطة إلا أنها كانت مدخلا إلى قلبي فمنذ ذلك اليوم وقلبي قد ثمل بحبها، وبما أنه محل للملابس النسائية كان من الحرج علي أن أدخل إليه، فداومت على الوقوف يوميا بالقرب من واجهته، حتى وقعت هي الأخرى في حبي، مبتدئا معها أجمل سنين الكفاح المرتكزة على حبل المودة المثبت بين قلوبنا. دام على زواجنا حتى الآن عشر سنين دون أن يكتب الله لنا الرزق بطفل، لذا كان هاني هو الهبة من الله والمؤنس الوحيد رغم صمته.

وبعد الغداء توجهت إلى مصنعي، متفقدا خطوط الإنتاج فيه. وبينما أقود السيارة مررت بالقرب من حي شعبي يقع على طرف تلة صغيرة يتفرع منها شارع ضيق، شاهدت عليه علبة معدنية تتدحرج ومن خلفها كانت مجموعة من الصبيان يركضون بحماس، مرتدين ثيابا رياضيه تحمل شعارات أشهر النوادي الأوروبية، كانوا يركضون وكل يسابق الآخر حتى يحظى بهذه العلبة التي قد لا تساوي شيئا عند البعض لكنها تساوي عندهم تحقيق جزء من أحلامهم.

وقفت برهة، متذكرا نفسي في ذلك الماضي، عندما كنت في مثل سنهم مع مفارقة القدر في أن أكون في مشغل للنسيج، ألحج القطن مقابل قروش قليلة، لكنها كانت كبيرة على جيب بنطالي الضيق. امتلكتني الرغبة في العدو سريعا نحوهم ومشاركتهم اللعب إلا أن الوقت داهمني وتأخرت ساعة كاملة عن الدوام في مصنعي. لكن هذا لم يصدني عن التجول في كل أقسامه الفنية والإدارية، متفقدا أحوال العاملين، متوجها بعدها إلى مكتبي وقد راجعت بعض التقارير.

لكني كنت من حين إلى آخر أختلس النظر وأنظر نحو صورة أمي الموضوعة في إطار جميل، كانت تبتسم على الرغم من عيشها في أيام صعبة خاصة بعد وفاة والدي، الأمر الذي حملني قدرا من المسؤولية في أن أكون على حسن ظنها دوما في أي شيء تطلبه مني، رفعا لمعنوياتها قليلا. ولا أخفي أبدا عشقي لتلك الأوقات التي قضيناها سوية نتحدث فيها في أمور كثيرة من الماضي وعن الحاضر. أمور كثيرة صرت اليوم أشتاق لها كاشتياق المهموم للفرج، خاصة عندما رحلت عن دنياي مع غروب الشمس وهي تنبس بكلمات لم أستطع سماعها وهي تخرج من شفتيها المبيضتين من فرط البرد، متبقيا منها صورها وروحها الجميلة.

أشعر أحيانا بل في كثير من الأوقات أن قلبي يختزن أكواما من الرمال سرعان ما تعصف بها الرياح، فتنثرها في كل مكان، رغم أني أملك كل شيء لكني لا أملك تثبيت الزمن عن الدوران والرجوع به إلى تلك الأيام. أعترف أنني لا أملك أيضا التحكم بالعواطف التي تعصر قلبي وتهيم في عقلي دوامات من الاضطراب. أعترف أنني رغم كل شيء مجرد إنسان يرصد بعينه كل يوم آلاف المشاهد، ويختزن في ذاكرته المئات منها. أضحك أحيانا، أثور وأغضب، لكني رغم كل شيء مجرد إنسان. صدقوني فهذه الحقيقة.

D 1 أيار (مايو) 2008     A ربا الناصر     C 0 تعليقات