عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بدر الدين بلال - السودان

مناظرة ميتافيزيقة


بدر الدين عبد العزيزمزرق لون السماء. يبدو غامقا وأصيلا في زرقته، وأنت ترى غابة ديتانق منتصبة الأشجار بالجانب الغربي للنيل الأبيض قبالة مدينة ملكال في طرفها الشمالي. أشجار الدليب العالية تبين ثمارها الكثيفة البرتقالية اللون حول إبط سعف أوراقها والنيل رائقا يمتد بوسطه شريط طويل من أعشاب زهرة النيل في رحلتها الطويلة وهي تهبط صوب الشمال، وبعض عجول أفراس النهر تتسلقها لتهبط معها إلى قاع النهر الأشهب، وثمة ثور يخور بمرعى جزيرة القرنتي التي يفصل بينك وبينها خور المك.

تبدو الدنيا عجولة متصاعدة الخطى. هذا هو إحساسك أنت بالطبيعة والحياة، يداهمك الوقت وتداهمك الأشياء. وحتى شعورك وأفكارك والخواطر تترا بتوالي رهيب ومريع يغرق دماغك، تضج متزامنة ومتقاطعة ومتماهية والواقع العجول الخطى وهي تفرغك قطرة فقطرة. تشارف الآن على الخواء والبط البري يرعى الديدان أمامك باطمئنان، وسرب عصافير يهب مثل غمامة تندفع صوب الغطاء البستاني للمدينة. وثمة ظباء ترد النيل عند مخالب الغابة مخائلة في ظمئها.

أمامك الآن أطلال حضارات قديمة من بقايا آلهة ونذور ومعابد مفتوحة على شرفات النيل القديم المطل على أروقة الجنان، وثمة كهنة ونساك ويهود كانوا هنا، وطفل بداخل سلة تمخر به عباب النهر الفائر العجول.

كل هذه ترهات. أنت تراها أساطير، والآلهة تتوعد الإنسان وترهبه وترهقه عسفا بمتطلباتها التي لا تنتهي فقط لتضايق الإنسان وتكبله. والآن أنت تقف أمام بلاط آلهة الماء بأقدامها القصيرة جدا، هكذا تقول الأسطورة بمعتقداتها، هي تصنع دوامة بصلب الماء لتمتص عبرها الإنسان وتبتلعه ثم تلفظه ركاما لبقايا إنسان. هي تقول ذلك متوعدة كل من تراهم من بني الإنسان آبقين وزنادقة فجرة غير مصدقين، ومن فوقك السماء تحمل آلهة السماوات القابضة على عصا البرق، تضرب بها الأرض لتصب جام غضبها ونقمتها على رؤوس الكفرة المارقين من بني الإنسان، كلها تتوعد، تترصد بالإنسان. هل الآلهة تكره الإنسان وتبغضه؟ هل هي ناقمة عليه نقمة أبدية في مقت وبغض وكره عظيم أزلي وأبدي؟ هي بوعيدها وترصدها لحركة الإنسان على الأرض مهده ومثواه الأخير، هي تلقي بعبئها دينا وقهرا على كاهل الإنسان دليل وجودها الوحيد، أليس هو الوحيد المعني بحمل رسالة الأديان، أليس هو الوحيد المطالب بالعبادة وتطبيق شرائع الآلهة؟ إذن هو وحده المعني، هو الوحيد المطالب بفعل ذلك.

ثم أنت أيضا تكره بني الإنسان، تراهم غير جديرين بالحياة، تنصب نفسك الآن إلها مثلها تماما كما فعل فرعون من قبلك، حاقدا غاضبا ممتلئا بغضا ومقتا تطفح بالقهر والعسف. والآن ها أنت تصيح بصوت داو: كلها بشر، كلها مثلي تماما بصورها وبصفاتها وذاتها وحواسها هي صورة مني، تشبهني.

وفجأة الآن أظلمت السماء مخفية زرقتها الغامقة خلف خباء كثيف من الغيم، وعصف البرق وامضاً ليضرب طبل الرعد داويا يخلخل ثبات الأشياء، ومن عند غابة ديتانق ومن بين أشجار الدليب وانبثقت تهب الآلهة محاطة بالنور بل هي مغلفة بالنور.

ها أنت تذكر الآن وأنت طفل صغير صوت الإله دينق لا يزال يدوي بأذنيك من خلف ستارة بيضاء ثبتت على الجدران، تذكره الآن جيدا. كان أقرب إلى صوت البيز جيتار وهو يهز الجدران هزا عنيفا، خارجا آتيا كالهول كالمصيبة المريعة والإله يتفاخر بقدراته، والكجوري يفسر للإنسان حديث الآلهة. يومها توعد الإله رعاياه العذاب إن هم لم يوقفوا العجول والشياه لأمره، لضرب الأرض بعصاه، عصى البرق وشق السماء بنارها الهائلة وأهلك كل من على الأرض بينما تتعالى بذات الوقت متصاعدة ضحكات الآلهة الآخرين. والآن هم أمامك. تراهم عيانا جهارا تحت سرادق الغيم. وثمة دمدمة واهية تجوس رحم الغيم المنقبض المتقلص ساعة مخاض، والآن أيضا التوتر يعتريك، ها أنت ترفع بصرك إلى السماء الغاضب، وجوه الآلهة مقطبة الجبين وبوجه عابس كالح يقول نيكانق: أيها الإنسان البائس الضعيف، أيها المنكود الحظ كيف شاء لك أن تقلق خلوتي؟ وأنت تحاول قدر استطاعتك الارتكاز بالانغراس على جسد الأرض وفي نفس الوقت تبحث عن كلمات طيعات لتقذف بها وجه الآلهة، والكلمات تستعصي وتعتصم عنك، وحتى ثباتك على الأرض أضحى مستحيلا لم يشأ لك الانغراس، هنا أنت تتزحزح للوراء قليلا قليلا دون أن تدري أنك تنزلق إلى الإمام قليلا قليلا. الآن تلامس أبدان الآلهة تحس بمسها عليك، تسري قشعريرة بجسدك وتراك تنقبض مرتجفا. ينتهرك الإله متحديا إياك صارخا بوجهك يقول: ماذا تقول فيما قلت لك؟ يصرعك الصوت الرهيب وتصرعك أكثر ومضة البرق الهائلة التي اعتلت قمة رأسك ودماغك تفور كيمياؤه وصوتك يأتي كالخوار.

هذه الثدييات العليا التي خرجت منها أيها الإنسان الآن تبدو نادمة على فعلتها. تقول ليتها لم تفعلها ونامت ليلتها تلك في بيات شتوي طويل أو لكانت أجهضت حملها لتلك الطفرة المزعومة ولمزقت الجينات الشائهة وابتسرتها قبل أوان المخاض. هذا ما تفكر به الآن. ليتك لم تكن والآلهة تقف على رأسك بكل زخم بريقها ووعيدها لبني الإنسان، كأنها تركب في تحد لرصيفها وصنوها الإنساني الذي ينازعها عرش الأرض.

واصل الإله اقتحامه أفق الحديث ناثرا وعيدا ورعبا يقول: أنت أيها التعس، تسعى لمناظرتي؟

الآن لا بد أن تقول شيئا إذ لا مجال للصمت. ثم يعتريك شيء من التماسك وتنتهز الفرصة التي لاحت لك، أنت الآن مطمئن لمجريات المناظرة وأنت ترى وتتأكد من النزعة البشرية الواضحة للإله في تحديه للكائن البشري الذي بكل الصفات هو الأدنى وهو في متناول قبضة صانعه الأعلى صفاتا، والآن فقط تحس بتساوي طرفي المتباينة الأصعب ما بين الطبيعة وما وراءها. وأنت تنتصب منغرسا بالأرض صلبا كنصل حاد تجار بوجه الأرباب. تقول: من قال إنكم صنعتموني، وأنتم صنيعة تفكيري؟ بفكري أوجدتكم وألبستكم ما لا تستطيعون خلقه أو مجرد التفكير به، كان ذلك حين كان لا غير لي سوى صنعكم والآن لا أحتاجكم، فالطبيعة لم تعد مغلقة أمامي ولم تعد الأشياء تؤول للمجهول. البرق الرعد هيجان البحر الثمرة بالغصن انبثاق النبات من بطن الأرض الولادة والحياة والموت كل هذا كان مبني للمجهول، كان لا بد من وجودكم آنذاك والآن تفسر الأشياء ببعضها، فالواحة بقلب الصحراء تعني وجود الماء والرياح الموسمية هي مبعث الخريف بما تحمله من غيوم بينما ظاهرة التبخر تفسر وجود الغيوم ذاتها. فماذا تبقى لكم عندي؟

أنت مرتاح بهذا السؤال الذي طرحته وقذفت به وجه الآلهة المبجلة، أجل وماذا تبقى بأيدي الآلهة، أليس هذا ما قصدت قوله؟

لاذت الآلهة بالصمت وسرت ببدن الأرض قشعريرة ارتخى عليها العشب بوسائد الأرض، أشجار الدليب بصوادحها المتوترة المنزعجة لقدوم العاصفة تقف عاجزة والبرق يفجر بقبة السماء دوي الرعد يصم أذن الأشياء. والآلهة تقهقه، بينما نيكانق تبسم متعاليا ومترفعا والحلم الإنساني ينهار تذروه الرياح. والآن أنت ضعيف ومرتاب أمام هول عاصفة غضب الآلهة، بينما إحساس بداخلك يتنامى وتتمنى لو تذرو العاصفة كل شيء بما فيها الآلهة، ليتها تدمر الوجود وتسحق الوعي الناقص وتنتهي المناظرة إلى العدم. أرخى نيكانق سمعه يلتقط ما يدور بعقلك، ما ينفعل به قلبك، وها قد قرأك وتبسم ليكشفك أمام نفسك لتدمر نفسك بنفسك، هذا العقل بهذا الدماغ المادي الذي تتباهى به بهذا الوعي المحدود المكبل بالحواس.

هذه ساعة خروجك من أجداث الذات، تحس بذلك حيث الوهم ينمو حلما بكل مستوياته وأنت تصوب وتطيش الرياش بالأفق اللامتناهي بامتداده ومحدودية الرؤى، وأنت تقبع مترقبا منتظرا لما ستقول الآلهة دون أن تفهم ما تريد أنت فخلف النور نور ، وخلف الأنوار وميض احفوري قديم آخذ في الانتشار بأفق الكون البعيد، إذن الأشياء ليس لها ما وراءها سوى ذاتها والوجود لا يحمل مضمونا آخر سوى الوجود ذاته.

اكفهر وجه المناخ بما فيه من وجوه الآلهة وحتى وجهك أنت بدا شبيها ككل وجوه الأشياء، وكلمات الرمز الإلهي تخرج من ظواهر الطبيعة لا لتفسر الأشياء، بل لتضفي غموضا وغبشا وعتامة على العلة الأولى لها. وأنت غارق فيما بين النتائج والأسباب لا تدري إلى أيهما تتجه وصوب ماذا يصب الانفعال.

ارتجت أخاديد وجه نيكانق. قال ممتعضا: أنت تعصي مشيئتي، أردتك أن تسجد لي وها أنت تمتنع أيها التعس وما أنت سوى بعض شيء من أشيائي التي لا تحصى، يرتفع قفصك الصدري ويهبط بأنفاس متلاحقة وقلبك يتضخم غيظا. تعلن ثائرا عن غضبك أمام كل الآلهة تقول له: لا سلطان لكم علي، قلت إنكم صنيعة مخيلتي حين كان المجهول يطبق على كل شيء حولي، والآن أعلم يقينا بكل ما يحيط بي وبماهية مكوني. أنا مجرد كيمياء تتفاعل ليس إلا، فما هو تكوينكم أنتم؟ أجيبوني: مماذا تتكونون؟ وبنفس نبرة الامتعاض تلك قال نيكانق: أنا الشمس التي تعبر كل يوم صباحا من الشرق إلى الغرب تمنح الخير والنماء وصمت. وتقتنص الفرصة منتفضا. تقول له: إذن بما أنك تتمثل في الشمس أنت جسد مادي مثلي تماما. قال نيكانق: الشمس هي نوري وليست ذاتي، ليست جسدي. تقول له: إذن أنت وهم، افتراض ليس أكثر. يتساءل نيكانق: فرضية أنا، من الذي افترضني؟ تقول له: افترضك الجهل، جهل العقل أمام ظواهر الطبيعة. يقول نيكانق: أي عقل ذاك المحدود المكبل بالمادة والحواس؟ تقول له: هو العقل الذي أبدع الفكرة بالوعي، ألا ترى أن كل شيء هو مجرد فكرة، فكرة فقط؟ وهذا ما تعنيه الأشياء للعقل، وأنت افتراض لفكرة أيضا. في وقار مهيب تبسم نيكانق وهو يقول: أنت تختزل نصف الوجود، ثنائية الأشياء. ألا ترى الوجود كله يقوم على ثنائية محكمة: الذكر والأنثى الأرض والسماء، الجسد والروح، النور والظلام، الضوضاء والصمت، الحركة والسكون، الآلهة والمخلوقات، والحاكم والمحكوم؟

تقول له: هذه الثنائيات تفسر بعضها فقط، فالضوضاء والصمت لا يمثل أحدهما أصلا للآخر. فالفعلين متلازمين. حدوث أحدهما يدلل على وجود الآخر منهما، وهكذا الأحداث، فالقتيل دليل على وجود قاتل، سلسلة الأحداث تفسر علاقة الحدث بالذي سبقه والذي يليه من حدث. كل شيء في الوجود قائم على الحدث الذي يؤدي إلى ما بعده من حدث، ويفسر في ذات الوقت ما قبله من حدث، مثل حدث الانفجار الأول بالسديم.

قهقه نيكانق قبل أن يقول: وكأنك ترجع كل شيء للعدم، أقصد خروج العلة الأولى من قلب العدم. إن كان للعدم قلب، وتقول له: العدم نفسه يفسر الوجود ولا يصنعه، فنحن موجودون بينما أجدادنا هم الآن بالعدم. سارع نيكانق يقول: إذن العدم هو وجود آخر أليس كذلك؟ تقول له وبإصرار: لا يعنى ذلك أن العدم وجود آخر وعالم آخر مواز لهذا العالم وهذا الوجود، لقد قلت ما وراء الأشياء إلا الأشياء ذاتها وإذا شاء لك السفر عبر الزمن ستجد الأنباء ذاتها إن كان ذلك السفر إلى المستقبل أو الماضي، كل شيء بقي عالقا بالزمن وكأنه لم يبارح مكانه، ولحظته تلك خطوة واحدة وكأن كل شيء يقبع بسرمدية الثقوب السوداء كهوف الفضاء. نظر نيكانق نظرة إشفاق لمناظره ويقول: أنت الوهم، وهم الأشياء بذاكرة الوهم، أنت تمرد الذات على نفسها، وهذا هو الوهم الإنساني الغبي في أكبر حلم غبي يروده الإنسان. تقول له: لست وهما فلي ظلي على الأرض كسائر الأشياء ألا تراه؟ وتستطرد متسائلا: أين ظلك أنت على الأرض؟ كظم نيكانق غيظه وهو يقول: لست جسدا ماديا مثلك حتى يكون لي ظل. أسرعت تقول له: إذن، أنت الوهم ولست أنا، لأنك خارج الحواس، فكيف تريد مني التعرف عليك؟ وبغيظه يقول نيكانق: بالعقل، بالعقل، بالعقل تعرفني، وتسارع أنت تقول له: ولكن العقل لا يعرف سوى المادة التي تصل إليه عبر الحواس وأنت تنفي مادية جسدك، إذن لا مجال لك مع العقل، إلا إذا كنت مثلنا بطبيعتنا المادية الزائلة الفانية.

انهمر المطر غزيرا يضرب الأرض ووميض البرق الكثيف يضيء الثمار البرتقالية اللون الملتصقة بقوة عند إبط سعف أشجار الدليب العالية بينما قرد يحاول تفادي البلل يختبئ بأسفل السعف الجاف ويمامة برية ذات حور حول عينيها ترسل هديلا حزينا وشجيا وأفراس النهر تعتصم بجزيرة القرنتي. المطر يضرب وجهك أيضا بقساوة وأنت تحاول النظر بحماقة ومباشرة لوميض البرق تتراءى لك كرات صفراء وحمراء وزرقاء وخضراء طافية بالهواء.

من خلفك همس المدينة الوادعة المستسلمة لوابل المطر وبعض القرويين يمضون في عجل في طريق عودتهم لقراهم المتناثرة على ضفاف النهر. من اشترى الدنيا فقد اشترى الحياة ومن خسر الدنيا فقد خسر الحياة. هذه مقولة قالها شيخ كان يجلس تحت شجرة سنط ضخمة. والحياة بين الولادة والممات لا تمهلك كثيرا. قد تصبح أحيانا مشوارا بلا طائل. هذا ما لا تحس به الآن والآلهة تغرق وتنهار بعالمك الحديث تحت وابل مطر تتلاشى. لم يعد خلف الطبيعة إلا الطبيعة ذاتها. هذه آخر خاطرة تمر بذهنك الوامض الآن.

D 1 أيار (مايو) 2008     A بدر الدين عبد العزيز     C 0 تعليقات