سناء شعلان - الأردن
ابن حزم الأندلسي: وريث العشق العربي
بـعـد أن اكـتـشف المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (Reinhart Dozy) النسخة الوحيدة من مخطوطة (طوق الحمامة في الألفة والألاف) لابن حزم، وقام بالقراءة فيها، أعلن في كتابه تاريخ مسلمي الأندلس (*) أن النفس العذري عند ابن حزم مردّه إلى أنّ ابن حزم إسباني مسيحي، لم يفقد كليّة طريقة التفكير والشعور الذاتية لجنسه. هؤلاء الإسبان، حسب رأيه، المتعربون يستطيعون أن يهجروا دينهم، وأن يبتهلوا بحمد ابن المسيح، وأن يلاحقوا بالسخرية إخوانهم القدامى في الدين والوطن، ولكن يبقى دائما في أعماق أرواحهم شيء صاف رهيف وروحي غير عربي. وأضاف أنّ ابن حزم لم يعرف الحبّ العذري العفيف إلاّ لأنّه من أصل مسيحي، وأنّ عرف المسيحية العنيف قد نبض فيه رغم إسلامه فجعل ينحو منحى العفّة شاذّا بذلك عن بقية المسلمين.
وللأسف أنّ هذه المقولة قد راجت عند جمهور كبير من الأوروبيين حتى الثالث الأول من هذا القرن، إلى أن جاء الراهب الإسباني أسين بلاشيوس، ودرس هذا الموضوع وردّ عليه، إذ كان ثبتا وحجة في الفلسفة الإسلاميّ.
وقد عرض لفكرة دوزي وردّ عليها بما ارتضاه لذلك: فردّ على فرضية أنّ ابن حزم مثل للحبّ الروحي (الحبّ الأفلاطوني)، وقال: إنّ ابن حزم قد أحبّ أكثر من مرّة، ومن هذه الزاويّة الجديدة التي لم يرد دوزي أن يضعها أمام القارئ، يفقد بطلنا درجات من مثاليته وأفلاطونيته، لكن لا يمكن الإنكار أنّه ينطوي على مشاعر رقيقة لم تفقد توهجها.
كما أنّ بلاثيوس قد رد على افتراض أنّ النفسية التي تكابد الحبّ الأفلاطوني ليست من خصائص الجنس العربي ولا الأدب الإسلامي، وكلاهما في عواطفه الغرامية يستمدّ إلهامه غالبا من الرغبات الجنسية المبتذلة. وانطلق بلاثيوسش في ردّه من كتاب "طوق الحمامة" نفسه إذ إنّ الكتاب يعرض في جلّه لشخصيات من المجتمع القرطبي، وهي تُقدّم لنا في قمة توهجها الدلائل على رقيها الثقافي والعاطفي. إذن لم يكن حب ابن حزم الأفلاطوني وليد عدوى سلالية، أو أنّه تلقاه من نفسية أسلافه المسيحيين؛ لأنّ كثير من أبطال الغزل الرومانسي كثيرين جدا ينحدرون من أصول عربية خالصة، ولا يمكن أن يجري في دمائهم الخصائص الموروثة التي نفترض أنّها عند ابن حزم.
ويضيف بلاثيوس: تأثّر دوزي بما هو معاد لحسيّة الحبّ عند الجنس العربي أكثر مما تأثّر بما هو حق، وهذه الأفكار المطروقة وليدة دراسات جزئية وسطحية وجانبيّة للدين الإسلامي، وهي مضطربة، مثلها في ذلك خرافة لا تقلّ عنها انتشارا، وهي عجز الجنس السامي عن الدراسات الفلسفية، الأمر الذي جعل دوزي ينسى أو يتناسى أنّ الثقافة الإسلامية ابتداء في شعراء بني عذرة، انتهاء بالشعر الصوفي الذائب في العذرية.
والحقيقة إنّ الرّد على تهمة دوزي يطول الكلام والتفنيد فيه يسلك بنا دروبا شتّى، إلاّ أنّ أبرز ما يمكن أن يقال في ذلك:
أولا: دوزي يفترض أنّ ابن حزم هو رجل من عائلة مسيحية تشبّعت بالدين الكاثوليكي وإنّ إثبات أمر كذلك يحتاج إلى كثير من الأدلة التي لم يقدمها دوزي، بل إنّ الدكتور طاهر مكي يقول في هذا المقام قولا لطيفا إذا يقول: إنّ جانبا لا بأس به من السكان الأصليين للأندلس كانوا وثنيين، وإذا كان من المرجّح أنّ ابن حزم ينحدر من أصول إسبانية، فمن المرجّح أيضا أنّ أجداده لم يكونوا قد اعتنقوا المسيحية عند دخول الإسلام؛ لأنّه من المنطقة الفقيرة في جنوب غرب إسبانيا، وغالبية أهلها عند الفتح كانوا من الوثنيين، وعلى أيّ حال فإنّ ما كان يجري في الجانب العربي الإسلامي من الأندلس من مظاهر الحبّ الحسّي، كان يجري مثله، وأفحش منه، في الجانب المسيحي، ولم تجرِ في عروقهم دماء عربيّة، ولا أتخذ جدودهم الإسلام دينا، ويكفي مثالا على ذلك الشذوذ الجنسي في قشتالة في أوساط المسيحيين فضلا عن السيرة الجنسية المخزية للأنفونسو السادس ملك قثالة الكاثوليكي المتديّن.
ثانيا: دوزي جعل رباطا واهنا بين ابن حزم والمسيحية المفترضة كدين لآبائه، ونسي أو تناسى ذلك الموروث العربي العفيف الهالك في ثقافة العرب المسلمين التي نهل منها ابن حزم، أو على الأقل من معظمها كما ذكر بلسانه في كتابه طوق الحمامة وفي سيرة حياته. وهذا التراث العشقي العفيف يمكن أن نلخّصه كما قال إحسان عبّاس في المحاور التالية: 1= مقام فلسفي كما هو وارد عند إخوان الصفا في رسالتهم (ماهية العشق)، إذ يقررون أنّ النفوس تتفاوت في المحبّة بين نفوس شهوانية وأخرى حيوانيّة وثالثة ناطقة، وأنّ في جبلة النفوس محبّة البقاء، وقد تحدّثوا عن تدرّج النفس من المادي إلى الروحاني. 2= مقام طبقي: كما نجد في كثير من مؤلفات الأطباء مثل ابن سينا عن الحب، إذ يقول: من شأن العاقل الولوع بالمنظر الحسن من الناس. 3= مقام تنجيمي: مثل ما كتبه الموبذ قاضي المجوس عن الحبّ. 4= المقام الصوفي: لا شك أنّ الصوفيّة التي انتشرت في الأندلس حتى أنبتت أعلام التصوّف مثل ابن عربي قد أثّرت في تنمية الحسّ العفيف عند ابن حزم. فالصوفيّة ترى الحب الإنساني امتحان لكي يتلقّى المحب درسا في طاعة محبوبه، ويدرك معنى المشقة في مخالفته وصولا إلى حب الله.
وهذه المقامات للحبّ جمعت في كتاب اسمه الزهرة وهو كتاب عرفه ابن حزم. ولو لم يطّلع على المصادر الشرقيّة الأخرى، لكان كتاب الزهرة وحده كافيا، ولكنّه كما يقول إحسان عباس لا بدّ قد اطّلع على مروج الذهب للمسعودي، وما ورد فيه عن الحبّ، ورسالة القيان للجاحظ كذلك كتاب البيان والتبيين. بل لا يستبعد الدكتور إحسان عباس أن يكون ابن حزم قد اطّلع على كتاب فردوس الحكمة لعلي بن ربون الطبريّ، أو مصدرا مشابها له، فالحديث عن ضروب المحبّة متشابهة يقول ابن ربون: "فإنّ من شأن النفس الولوع والعجب بكلّ شيء حسن من جوهر أو نبت أو دابة. وقول ابن حزم: فالظاهر أنّ النفس الحسنة تولع بكلّ شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة.
ولا يُستبعد أنّه قد عرف مصادر مشرقية أخرى ذات علاقة بالموضوع عن قريب أو بعيد بالإضافة إلى ما كان يمدّه به الشعر المشرقي، وحكايات العشّاق المشارقة ذخيرة كبيرة حول تصورات الشعراء والرواة والقصاصين لموضوع الحبّ، حتى أنّ ابن حزم قد استثنى أولئك الأعراب وشعرهم في الحبّ، إذ قال: ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين بينهم غير سبيلنا.
ثالثا: كما أنّ البيئة الأندلسية كانت تمدّ ابن حزم بشيئين مهمين: أولهما ذلك الشعر العفيف المتشبه بالشعر العذري نزولا على أحكام الظرف، وقد مهّد ابن فرج في كتاب الحدائق لذلك السياق الأندلسي الخالص في شعر الحبّ، وكان ابن حزم معجبا بكتابه، وقد حفظ الكثير منه. وفي طيّات الكتاب أورد ابن حزم الكثير من القصص عن أبناء مدينته، بل كان يذكرهم بالاسم مثل: الرمادي وحبّه لحلوة، وابن قزمان وحبّه لأسلم، وعبد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الجزري.
ويبدو أنّ الحب العفيف كان شائعا في مدينته، ومنها استوحى مادة كتابه إذ يقول فيه: ما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاويان خصل الشعر مبخّرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي، بالشمع الأبيض المصفّى، ولفّت في تطاريف الوشي والخزّ، وما أشبه ذلك تكون تذكره عند العين.
كما أنّ حياة ابن حزم لها علاقة بهذا المجتمع إذ إنّه كما يقول قد تربّى على أيدي النساء، وعنهن أخذ آدابه الأولى إلى جانب تجربته العفيفة في الحبّ التي انتهت بزواجه من حبيبته (نُعم)، وهو دون العشرين من عمره.
خامسا: إنّ الكثير إن لم يكن المعظم من القصص التي يوردها ابن حزم في كتابه هي من القصص المتصلة بعائلته أو أصدقائه، أو عمّن عرف عنهم أو سمع عنهم في مجتمعه. وفي ذلك يقول: التزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدّك والانتصار على ما رأيت أو صحّ عندي بنقل النقاط.
سادسا: ودوزي يجزم بتأثر ابن حزم بالدين المسيحي بما فيه من روحانيات، وقد غاب عن ذهنه أنّ ابن حزم ليس مسيحيا أصلا ليتأثّر بالمسيحية بل هو على النقيض فقيه ظاهري يصدر في كثير مما يكتب عن العذرية في الحبّ عن دينه الذي يردّه عن الزنى واللقاء الجسدي خارج إطار الزوجية، وقد أشار إلى ذلك في كتابه طوق الحمامة، إذ قال في موضع الترهيب من الزنى: قال تعالى: (إنّ النفس لأمّارة بالسوء)، وينقل كذلك الأحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك، ومنها قوله عليه السلام: "سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، رجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله"، بل إنّ ابن حزم في آخر كتابه فصلين عن (قبح المعصية) (وفضل التعفف) جعل فيهما العفّة والتخويف رائد إلى الفقه.
سابعا: وفضلا عمّا سبق في النقطة السابقة، فإنّ التأثر بالأدب أو الفكر الديني المسيحي يغيب عن الكتاب الذي حكم دوزي على صاحبه من خلال بأنه تأثّر بالعفاف المسيحي بل على العكس الكتاب تأثّر بالتراث والحبّ الشريف، ويورد أمثال وحكم وكلام الفلاسفة العرب وغير العرب، كما يورد أسمار وأسماء ملوك وقادة وعائلات العرب والمسلمين.
ثامنا: إنّ كتاب طوق الحمامة بما فيه من عذرية وعفة متأثر بشكل رئيسي بكتاب الزهرة لصاحبه محمد بن داوود الظاهري. مما ينفي تأثره بالعفّة المسيحية. وقد قال الأستاذ غرسيه غومس في تفنيد ذلك إنّه على الرغم من إشارة نصيّة بسيطة ومن التوافق في الاتجاهات العاطفيّة، فإنّ الطوق لا يكاد يدين للزهرة بشيء أو إن شئت يدين لها بشيء محدود للغاية.
ولكن دراسته حياة وكتاب ابن حزم تثبت على عكس غرسيه إليه، فابن حزم يذكر إنّه قد حفظ الكثير في صغره، كما أنّه يرى في ابن داود إماما ظاهريّا يستحق التقدير، لأنّه أمام يكتب في الحبّ، دون أن يعبأ بنقد الكارهين.
ومن السهل أن يضع الدارس على مواطن التأثر بهذا الكتاب في مثل المنهج والمواضيع المتشابهة، والتقارب في المنحى العام في المقدمة والخاتمة، وفي عدم إيراد شعر الشعراء بل الاكتفاء بإيراد شعر المؤلف.
وبعد، فهذه الإطلالة السريعة على حياة ابن حزم ومؤلّفه طوق الحمامة، وعلى بعض الآراء تجعلنا نرد بكل سهولة تهمة دوزي، ونحلّ محلها اعتقادا راسخا بأنّ تحفة ابن حزم تأثرت بثقافته وعربيته الإسلامية والعربية، ونهلت من مصادر هذه الثقافة، وإن اطّلعتْ على إنتاجات المسيحية بسبب وجود تلك الثقافة في المجتمع الأندلسي.
= = =
(*) نشر الكتاب في عام 1861 بالفرنسية، وهو متوفر بترجمات إلى الإنجليزية.
(*) Histoire des Musulmans d’Espagne (1861)
(*) Spanish Islam: A History of the Muslims in Spain
◄ سناء شعلان
▼ موضوعاتي