عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سليم الموسى - الأردن

دعوة للحياة: الحلقة 1


"ليس علينا أن نقلق من جراء هدف يلوح لنا باهت الصورة، ونطمح إلى بلوغـــــه في المستقبل، وإنما علينا أن ننصرف إلى ما بين أيدينا من عمل في الوقت الحاضـر فنستجلي حدوده ونرسم أبعاده، ثم نركز عليه، فالمستقبل كفيل بتدبير أمر نفسه." توماس كارليل، أديب إنجليزي.

.

سليم الموسىتقودنا هذه الحكمة إلى حكمة أخرى: "الحياة في حدود اليوم"، فقبطان السفينة مثلا لا يستعمل من آلاته إلا ما هو في حاجة له في اللحظة الراهنة، وهو يسير مطمئنا إلى نجاحه في بلوغ غايته، فلماذا لا يفعل الإنسان مثل ذلك، ويتخلى عن القلق فيما هو أبعد من يومه؟ ولا نعني بذلك شيئا من الاتكالية أو عدم الاستعداد للأيام المقبلة. كلا، ولكن المقصود أن خير الطرق لذلك الاستعداد هي أن يركز المرء أفكاره ويذكي حماسته في سبيل إنهاء عمل اليوم الحاضر، وذلك هو الطريق الأمثل للاستعداد للغد.

وحين قال السيد المسيح "يا رب، أعطنا خبزنا كفاف يومنا" لم يكن يقصد بالتأكيد إلقاء الحبل على الغارب فيما يتعلق بالمستقبل. لقد أراد عليه السلام أن يبعد الناس عن تسميم حياتهم من جراء الاهتمام البالغ في توفير ضمانات المستقبل. بل إن ما رمى إليه أن خير سبيل لضمان المستقبل هو الاجتهاد في الوقت الحاضر والنجاح في عمل اليوم، مع عدم القلق حول ما سيأتي.

إن القلق مرادف للهم، ويوصل إلى الإرهاق العصبي الذي يحطم الأجسام والعقول وكلنا يعرف الساعة الرملية التي كان يستعملها الأقدمون، ففيها الآلاف من حبات الرمل تنفذ من ثقبها الصغير إلى القارورة السفلى. وحياتنا جميعا مثلها تماما، تسقط حبة حبة، ولا يستطيع أحد دفع أكثر من حبة واحدة إذا شاء الحفاظ على انتظام عمل الساعة، وهكذا الواحد منا، يفيق في الصباح ليجد كومة من الأعمال في انتظاره، فإن لم ينتبه لها واحدا بعد الآخر (أي حبة، حبة وببطء) فإنه يعرض كيانه الجسمي للخلل، وعمله للفشل. إذن لا ترهق نفسك بالقلق على الغد، فإن حباته ستسقط من تلقاء نفسها.

وبهذا المعنى يقول الشاعر الروماني هوراس أبياتا من الشعر مفعمة بالحكمة:

سـعيد ذلك الرجل الذي يسمي اليوم يومه

والذي يظل ممتلئا بالثقة في نفسه

فيتحدى الغد قائلا

أيها الغد كن ما شئت = = فقد عشت يومي كاملا

وفي قصيدة أبي ماضي "ابتسم":

قال الحياة كئيبة وتجهمـــــــــــا قلت ابتسم، يكفي التجهم في السما

قلت ابتسم ما دام بينك والــردى شــبر، فإنـــــك بعـــــد لن تتبســـما

إذن، بكل الثقة والموضوعية والأمل، واجه نفسك بهذه الأسئلة:

= هل أميل إلى إقصاء الحاضر لأفكر بالمستقبل؟

= هل أتحسر اليوم بمرارة على ما انقضى أمس، مع أني لا أملك تغييره؟

= هل أفيق من نومي وأنا عازم "على أن أتمسك باليوم، فآخذ من الحياة فيه قدر ما أستطيع"؟

= متى أبدأ بتطبيق الحكمة "لن أستطيع تغيير ما مضى، ولست الآن قادرا على أن أعلم ما سيجيئ، فلماذا أندم أو أقلق؟"

إن جميع الناس ينشدون العلاج حين يعضهم الألم، لكن الأفضل من ذلك أن يفتشوا عما يمنع وقوع الألم قبل أن يدهمهم، إذن، إذا ساورك الألم، انطلق من أسوأ الظروف، ووطد العزم على تقبل أسوأ النتائج، وحينئذ تتحرر طاقتك المكبوتة التي كان يشلها القلق، وتشعر بشيء من الحياة الجديدة يدب في جسدك وعقلك على السواء.

ولنذكر هنا قصة ذلك الرجل الذي كان يعمل في شركة، وكان يعاني من قرحة في الاثني عشر، تقيحت وتورمت، حتى أشار عليه الأطباء بكتابة وصيته، وطلبوا إليه ألّا يقلق أو ينزعج من شيء. فترك الرجل وظيفته، وقبع في البيت ينتظر الموت بين لحظة وأخرى. وفجأة اتخذ قرارا خطيرا وغريبا، فقال: ما دمت سأعيش أمدا قصيرا، فلماذا لا أقوم برحلة أخيرة قبل أن ينتهي بي العمر ؟ نظم الرجل وصيته، وصّفى علاقاته مع الآخرين وسافر على باخرة جميلة، وكان يصحبه في رحلته تابوت فاخر أنفق عليه كثيرا. كان الركاب يسخرون منه ولكنه لم يكن يبالي، وعلى عكس وصية الأطباء، كان يفعل ويأكل كل ما يشتهي ويرقص وينط ويلعب ويغني كالأطفال ولسان حاله يقول: هذه آخر فرصة لي، فلأتمتع بغير حدود. وطاف في رحلته بلدانا كثيرة، وتمتع في مماته على رأي الأطباء أكثر مما فعل في حياته كلها، وأخيرا عاد إلى بلده سليما معافى، واستعاد وظيفته السابقة. فماذا لو استسلم للقلق؟ لقد آثر الحياة فجادت له الحياة.

إذن، إذا كنت تعاني من مشكلة تبعث على القلق، اسأل نفسك:

= ما هو أسوأ احتمال قد أواجهه؟

= وطد العزم على تقبل ذلك الاحتمال.

= اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ولنعد إلى قول أفلاطون، حكيم اليونان: "إن الأطباء يحاولون معالجة الجسد دون العقل، وهذا أكبر أخطائهم، لأن العقل والجسد وجهان لذات واحدة."

وفي ذلك يقول أحد علماء النفس: إذا غفر الله للإنسان أخطاءه، فإن جهازه العصبي لا يغفرها له أبدا. وعليه فإن الذين يستطيعون ضبط أنفسهم وأعصابهم، وهم يعيشون في ضجيج وصخب، بعيدون كل البعد عن القلق، ومن ثم عن الأمراض العصبية والانهيارات هم الذين يعيشون طويلا. وعليك أن تتذكر دائما ما يأخذه القلق من وقتك وصحتك وفلوسك. واعلم أن الذين يستسلمون للقلق يموتون باكرا.

= = =

المصادر الرئيسة

دايل كارنيجي، دع القلق وابدأ الحياة.

سمير شيخاني، علم النفس في حياتنا اليومية. دار الآفاق، بيروت، 1986.

د. عزت حجازي، الشباب العربي و مشكلاته. الكويت، 1978.

شاكر خليل نصار، طريقك إلى الصحة و السعادة (مترجم). بيروت، 1981.

دايل كارنيجي، كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الناس. المكتبة الثقافية، بيروت.

دراسات خاصة في علم النفس والاجتماع.

D 1 أيار (مايو) 2008     A سليم الموسى     C 0 تعليقات