عدلي الهواري
قهوة عربية بكثير من الهيل
على ذرى أردننا الخصيب ،،، الأخضر العابق بالطيوب
الساحر الشروق والغروب ،،، سمعتها تقول يا حبيبي
جاء صوت محمد جمال عبر المذياع من غرفة أخرى فحمل معه ذكريات أيام خلت: كانت عمان مدينة وادعة لا يخلو فيها بيت من دالية أو ياسمينة أو توتة وغير ذلك من الأغصان الخضراء المثمرة أو العطرة. تسكن في أحد جبالها (*) وتذهب ماشيا إلى مدرستك الثانوية في جبل آخر وتعود ماشيا. تمضي وقت الفراغ بلعب كرة قدم في ملاعب هنا أو هناك بين البيوت أو ليس بعيدا عنها، وبكرة تشترى بجمع ثمنها من قروش يوفرها الراغبون في اللعب معا.
عندما توسعت عمان عمرانيا كان ذلك على حساب الأراضي الزراعية. كانت الأراضي التي يزرع فيها القمح أو القثاء مجاورة للبيوت. البيت المكون من طابق واحد وحديقة تم توسيعه أفقيا فالتهم الحديقة، وعاموديا فحجب الجار عن جيرانه منظرا جميلا. الآن صار حدثا مثيرا للبهجة في النفس إن رأيت شمس الشروق أو الغروب، فقد حجبتها المباني التي لم ترحم خرسانتها أو حجارتها البيضاء الفاخرة سهلا ولا تلة. لم أصدق يوما عيني عندما شاهدت شمس الغروب من منطقة الجـبـيـهة القريبة من الجامعة الأردنية، فصورت المشهد الجميل.
جلب التطور العمراني لعمان المزيد من الشوارع والسيارات الكثيرة وزحمة السير. عند تقاطعات بعض شوارع عمان الرئيسية يحتاج سائق السيارة إلى قدر كبير من المجازفة لكي ينتقل من جهة إلى أخرى من التقاطع. أما المشاة، فإذا احتاج أحدهم لقطع الشارع فسوف يجسد قول الشاعر الراحل عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي ،،، وألقي بها في مهاوي الردى
مع فارق مهم وهو أن الشاعر كان يطلب حياة تسر الصديق أو مماتا يغيظ العدا. وفي ظل موجة الغلاء التي اجتاحت الأردن في الآونة الأخيرة، لم تعد حياة الكثيرين تسر أحدا، والموت بصدمة سيارة موت مجاني لا يغيظ العدا.
عمان تسير على طريق الاختناق كما جرى في مدن كثيرة في العالم. ليت أهلها يعلمون أن المدن التي سبقت عمان في التطور تدرك اليوم أهمية الحفاظ على البيئة، وتطلب من سكانها أن يفعلوا أي شيء يخفف من أعباء البيئة، كالتقليل من استخدام السيارة الخاصة، وتقليل استهلاك الكهرباء، وفصل المهملات إلى نفايات، ومواد يعاد تدويرها، كالورق والزجاج والبلاستيك والمعدن.
ورغم التطور العمراني، ومراكز التسوق التي تفضل أن يعرف أسمها بإضافة كلمة مول الإنجليزية له، والمقاهي الأميركية المعولمة، لا تزال القهوة العربية بكثير من الهيل مشروب الترحيب بالزائر في أماكن كثيرة. والذي اعتاد في الغرب على تناول القهوة في فنجان كبير أكثر من مرة في اليوم، يحتاج إلى دلة بكاملها من هذه القهوة الزكية الرائحة. والذي اعتاد على صنع القهوة بنفسه، أقصد تذويب ملعقة من القهوة السريعة الذوبان في كوب من الماء الساخن، يسارع إلى هز الفنجان الصغير لإعلان الاكتفاء رغم أنه راغب في المزيد، فلا يعقل أن يبقى حامل القهوة قائما على خدمته حتى تفرغ الدلة.
زرت عمان في بداية فصل الربيع. إنها الفترة التي ترى فيها عشبا أخضر وأزهارا برية في المساحات الصغيرة التي لم يشيد عليها بعد بيوت أو مبان متعددة الشقق. وفي زيارتي الأخيرة تسنى لي أن أزور حرم الجامعة الأردنية. هناك تشعر بأنك موجود في متنزه أحسن تنسيقه، وتم فيه الاعتناء بشجيرات الأقاحي البيضاء فبلغت حجما لم أره من قبل، وأزهرت وكادت تحيط الشجيرة برداء أبيض لكثرة الأزهار.
هل ستبقى ذرى خضراء؟ وهل ستبقى طبيعة عابقة بالطيوب يمكن يوما أن أصنع في أحضانها قهوة كثيرة الهيل وأنا أشاهد شمس الشروق أو الغروب؟ أريد أن أسمع ذلك الصوت الذي يقول "يا حبيبي". أنا في شوق إليه.
= = =
(*) كانت أغلبية أحياء مدينة عمان تعرف بجبل كذا، كجبل عمان، وجبل التاج، وجبل الهاشمي، وجبل الحسين.
صورة من عمان: ربيع 2008.
- عمّان في الربيع
المباني على ذرى عمان. ربيع 2008.
- حي سكني في عمّان
صورة من داخل حرم الجامعة الأردنية، عمان. ربيع 2008.
- الجامعة الأردنية
صف من الأقاحي البيضاء. حرم الجامعة الأردنية، عمان. ربيع 2008.
- الجامعة الأردنية
= = =
صور بكاميرا هاتف جوال. تصوير عدلي الهواري.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي