عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بدر الدين عبد العزيز- السودان

ذات الرداء الكرستالي


بدر الدين عبد العزيزوكأنما انطفأت شمعة بداخلها. كانت تجول ببصرها أنحاء جسدها الأسود الداكن. مسحة حزن تعتري وجدانها المختلج تجاه فقده لأشياء تبدو حيوية وحقيقية رغم زيفها بالمنظور الثقافي الإنساني الحديث. ولكنها تبدو كإلحاح، تمارس ضغطاً بالمفاهيم التي تولدت. تجتاح كل خمائر الفكر المتلبد المتجهم إزاء موروثات هي بالأحرى بقايا لنسق مفاهيم الرق القديم، حيث كان الأقوى يستعبد الأضعف منه تعسفاً وقهراً. حتى الأديان لم تعف الإنسان من ذلك.

وضعت على إصبعها السبابة قليلاً من عجينة كريم تفتيح البشرة، ودلكت وجهها بها. اكتنفتها مسحة من أسى. استدارت لتجعل المرآة من خلفها. لتهيم دون وجهة محددة تتجه إليها. رأت نفسها ترتفع عن الأرض، تخترق سقف الغرفة منسربة كالضوء من خلال الزجاج، وترتفع طافية محلقة عبر بحر الهواء، تجتاز المدى الأرجواني المطلق، عابرة الغيم إلى ما وراءه. بدت لها الأشياء على الأرض نقاطا مبهمة.

داعبتها آخر الغيمات لحظة عبورها. أحست بملمسها حارقاً على بشرة ووجهها. اكتنفها ثانية حزن وألم ساحقين روحها الشاحبة. نزلت دمعة ألم على خدها وتدحرجت ساقطة على الغيمة الأخيرة التي تناثرت رذاذاً بالسماء، وتتلاشى محترقة متبخرة، يرتسم على أشلائها قوس قزح غامق الألوان.

آلمها مشهد تلاشى آخر الغيمات. أحست بعدها بانفتاح داخلي على الكون الواسع الشاسع، وبصدى همهمات بهيمية النمط تضرب أذنيها، تستجيب لنداء داخلي ناتج عن أغوار كهوف عميقة بروحها. أدعية وتباريح ورقيات برموز أمهرية. تنفتح روحها أكثر متماهية والرحلة عبر الهواء.

تستريح نفسها. تطلق نداء أيضاً للانعتاق، للانفصال عنوة أو خلسة عن الجسد المجهد من معاناة نسق المفاهيم التي كبلت أفنية الاندياح عبر شرايين البناء الاجتماعي لنصفه الحزين القابع بظلال الأسى. حقول ما دون خط المساواة – المعادلة الأصعب والأقسى كنتيجة ترسف بخصائص تاريخ عابس وغاضب بوجه إنساني مكفهر.

اصطدم ظهرها سهواً بجدار الأزوت الجوي – غلاف الأرض الأزرق الجميل. كانت تتمنى ألا تعود، ولكن قوة الاصطدام جعلتها تنعكس، مرتدة باندفاع مريع باتجاه الأرض ثانية. هوت شاحبة ومتقلصة لترتطم بالأرض القاحلة مغمضة العينين. حين فتحتهما كان كل شيء حولها —وحتى هي— أشعث وأغبر. وكأنها جزء من تراب الأرض حقيقتها الأولى.

ينتصب أمامها جبل شاهق وأجرد بصخوره الجرانيتية الحادة الأطراف والتي تعتريها بين الفينة والأخرى اختلاجات تتجول إلى ارتعاش كانقباضات المخاض. ومن ثم انفلق الجبل ليخرج من قلب الصخر عصفور صغير أغبر وهزيل منتوف الريش يدنو منها مدهوشا. ثم غرد يحادثها قائلاً:

"يا لك من فتاة سوداء جميلة. من أين جئت؟"

قالت وقد أفعمها الإطراء سروراً ورضاء: أنا هنا منذ سنين بقلب هذه الصحراء العابسة الحزينة."

قال: "أين بيتك؟"

قالت: "هذا الصهد بيتي."

قال: "وكيف تحتمين من هذا الصهد؟"

قالت: "بالصهد نفسه احتمي."

قال: إذن. مماذا تحتمين؟"

قالت: "من نفسي احتمي."

أحست بشيء صغير بداخل قبضة كفها اليسرى. فتحتها وجدت بها بذرة غامقة اللون داكنة مثلها تماماً. أزاحت قليلاً من الرمل الفائر بالحمض بكفها اليمنى ودست البذرة هناك، ثم دفنتها بالرمل والحمض.

ارتفع من عتمة الأرض كالمرايا العاكسة ساق باهت وشاحب، ثم انفلق كما الجبل إلى ورقتين خضراوين. ومن نسغ انبثق من بين الورقتين انطلق برعم واهي الانبعاث، ثم تفتح لتطل من عند قلبه زهرة جميلة بيضاء.

أضاءت الدنيا بعينها. فغرت فمها مدهوشة لهذا الجمال الذي جاء مولدة متعسراً من قلب المستحيل.

"تخرج الأشياء من رماد غيرها،" قال العصفور ذلك وهو يتنقل ببصره ما بين الفتاة السوداء الجميلة والزهرة البيضاء الجميلة. احترقت الكلمات بفمها. لم تستطع الكلام. فكرت فيما كانت تفكر به: أن تحس بجمالها كما في هذه اللحظة أمام المشاعر المنبثة عبر عيون العصفور المنتوف الريش.

تذكرت جدها الأزرق الذي اتخذ هذا الاسم لشدة سواد لونه الذي ورثته هي منه. تذكرته وهو يقول متفاخراً بلونه: "أنا الأزرق كحل السراري."

انتزعها العصفور من توهانها مرائياً بحديثه يقول: "لا أدري. عشقتك أنت أم زهرتك. لا أدري."

قالت: "لست سعيدة بهذا."

قال: "عليك أن تتمسكي بما بين يديك وبالأمل." وأضاف: "كنت سجين الجبل. كنت وحيداً بوحشة الصخر والصمت وأصداء همهمات الريح حين تدمدم عند سفح الجبل. وقال أيضا: "في البدء كنت سعيداً بوحشتي وانفرادي، ثم أصبحت حزيناً، ثم تحولت إلى كئيب، فالدنيا تعطيك شيئاً أولاً، ثم آخر ثانياً، ثم شيئاً ليس كالأول ولا الثاني ثالثاً."

تنهد والشعور بالراحة يكتنفه برغم صهد الصحراء وبرغم الحمض على الرمال. ثم أضاف:

"امتلكت نفسي. أشعر بذلك. لست واهماً ألا ترين؟"

قالت متهكمة فيما يظن: "على جهلك قد تعود إلى سجنك عند الصخر."

قال: "لا يهم ما دمت حرا حتى وأنا داخل سجني. حر أنا بداخلي."

قالت: "أي حرية تلك وأنت بين براثن شيء ما. شيء يضطهدك يتعالى عليك."

قال مسارعاً: "هو الذي يتوهم ذلك، لأنه لن يصل إلى داخلي ما دمت حراً هناك."

قالت: "بل أنت هو الواهم."

قال: "لا تكترثي للجسد فما هو إلا بناء مادي تستخدمينه."

قالت: "أنظر. ما حواسي وشعوري، ما أنا سوى انعكاس لهذا البناء المادي."

قال: "لا تشتطي بالتعقيد المادي، فحين نشوى بالجمر نحس بالألم على هذه المادة."

قالت: "هو الوهم بعينه، فالمادة تتلف وهي لا تعي، والعقل يتوهم الأشياء، يصوغ العالم من خياله."

قال بوعي تام: "ولكن العالم موجود."

قالت: "هو افتراض بخيالنا."

قال بتأكيد: "أنت تغالين. تغادرين سماءنا."

قالت: "فليكن. ما العالم سوى سراب، وأنا لست بأنا."

قال: "ألا تدركين الآن كم الصهد صعب الاحتمال؟"

قالت: "لا أحس بشيء الآن."

كانت إزاء صمت الجبل الذي بدا كسارية، كقباب حمر. بدا بذهنها كماخور بقلب الصحراء، ترتاده نساء ذوات هياكل ضخمة بضفائر غجرية مسحوبة على الأرض من ورائهن، وبأثداء ضخمة تقطر حليب كالدم القاني، يفور حين يمتزج بالحمض الكامن بالرمل. يجلسن بغواية على درب الريح عند عتبة الجبل. بنات آوى مرتابون بنشوة. يسطون على الحليب المنسكب الفائر بحمض الرمل، غير مكترثين لمشاهد الغواية التي على النساء، الجالسات على دروب الريح.

D 1 تموز (يوليو) 2008     A بدر الدين عبد العزيز     C 0 تعليقات