أميمة أحمد - الجزائر
من دفاتر المنفى: ريما
هذه الـريما ليست ريما التي تقول عنها فيروز: "ريما، ريما الحندقة، شعرها أشقر ومنقى." ريماي عكسها تماما، لا شقراء ولا حندقة، ولا شيء من هذا الجمال الذي تتغنى به فيروز. أول مرة رأيتها في بيتي. يومها دعوتها إلى العشاء مع آخرين، وكان زوجها أيضا مدعوا مع أحد أعز أصحابه كما يزعم. بدت ريما لطيفة، دمثة، لكن عينيها الصغيرتين المحمرتين تدوران في محجريهما بفضول غريب لمعرفة ليس فقط تفاصيل البيت الذي تدخله لأول مرة بل لتعرف أدق التفاصيل عن أصحاب البيت.
لأن بايا صاحبة البيت وصاحبة دعوة العشاء تركت ضيفتها تتحدث ما تشاء وأصغت باحترام، وبنفس الوقت تحاشت إحراجها رغم كثرة الأسئلة وتوزيع الوعظ ودون أن تحدد الضيفة ريما هوية هؤلاء الناس الذين سقطوا تحت مقصلتها، وراحت تنتقد العلاقات الاجتماعية الراهنة القائمة على المصلحة حتى لو تسبب بأذية الناس لأجل مصالحهم.
كانت بايا تستمع وتتساءل مع نفسها ماذا لو عرفت هذه "الواعظة" أن زوجها عمل يوما على إلغاء عقد عمل لبايا كانت بأمس الحاجة إليه لتصمد في منفى لم تختره بل أجبرت عليه؟ ماذا ستقول عن زوجها وفق مقياس وعظها بالفضيلة وقد حارب لقمة عيش من تدعوه اليوم لوليمة عشاء؟
بقيت علاقة بايا رسمية مع هذه الوافدة الجديدة على جو موبوء بالنميمة والدجل والنفاق. ولاحظت بايا أن ريما تعز الثرثرة كثيرا، ربما للفراغ الذي تعيشه، فلا عمل لديها سوى عمل البيت. ورغم أنها جامعية ولديها هذا الفراغ فلا تطالع كتابا. لهذا كله جعلت بايا علاقتها محدودة مع ريما.
ولكن الواجبات الاجتماعية تفرض نوع من العلاقات تصفها بايا "بعلاقات التكاذب الاجتماعي." ومع ذلك يجب القيام بهذا الواجب، فقررت بايا زيارة ريما، ولكن هذه الزيارة لم تتيسر بعد أكثر من عشر مرات نوت على الزيارة وفي آخر لحظة وقبل أن تهتف لريما يحدث طارئ ولا تتم الزيارة.
تتذكر بايا من هذه العوائق عطل السيارة عدة مرات تصادف مع موعد الزيارة. مثلا قبل دخول الحي السكني انثـقب (شاكمو) السيارة، فاعتذرت عن الزيارة وأخذت السيارة إلى مصلح أنابيب السيارات ليصلحها. في المرة الثانية سخنت السيارة وكاد يحترق المحرك. وفي المرة الثالثة لم يدر محرك السيارة. وبعد أن ألغت بايا الزيارة بنحو ساعة دارت السيارة بسهولة.
مرات عديدة تعطلت الزيارة. اليوم كان الأغرب. حين وجدت بايا نفسها قريبة من منزل ريما بعدما تركت السيارة عند الميكانيكي، قررت الذهاب إلى زيارتها مشيا على الأقدام على طريق سريعة قلما تمر فيها سيارات الأجرة، بل نادرا. قالت بايا لنفسها: "لا توجد سيارة تكسي في الطريق. سأمشي لبيت ريما وأزورها، وهناك سيارات الأجرة متوفرة. فوجئت بايا بالتو واللحظة توقف سيارة تكسي أمامها، أخذت السيارة طلبا خاصا وعادت لبيتها.
فكرت بايا وتساءلت: لماذا كلما نويت زيارة ريما يحدث ما يعطل الزيارة؟ اليوم تعطلت الزيارة بصورة مدهشة. وتأملت بايا مجريات تعطل الزيارة لأكثر من عشرين مرة. واليوم كان إنذارا وليس سببا فقط لتعطيل الزيارة. ترى هل هي العناية الإلهية تسبب هذه العوائق لتمنعني من زيارة هذه المرأة؟
بايا مؤمنة جدا في أعماقها، ولا تظهر ذلك كما يتباهى البعض بمظاهر لا تنم عن إيمان بقدر ما تدل على فراغ داخلي، ولملء هذا الفراغ يشرع المرء يكثر ذكر الله بصوت عال أمام الناس. الفراغ الإيماني يعوض بالكلام.
من وحي هذا الإيمان الجواني وجدت بايا الجواب مريحا عندما قالت: "أجل إن الله لا يريدني زيارة أو توطيد علاقتي مع ريما، فهو أدرى بحالي، فلا أحتمل الدجل والنفاق والثرثرة، وقد يكون هناك ما يدبره زوج ريما لبايا، فهو يتصيد الفرص كي يسئ إلى بايا التي حافظت على نفسها نضاليا واجتماعيا وسياسيا، ومقالاتها محل اهتمام النظام والمعارضة على حد سواء. لذا يتضايق زوج ريما ويخترع الحكايات الكاذبة عن بايا، والكذب حباله قصيرة فتنكشف أكاذيبه.
ولا تشك بايا بحدسها أن الله سبب الأسباب لتبتعد عن هذه الريما. كم يوجد تناقض بينها وبين اسمها! الريم هو الغزال وهو أجمل الحيوانات البرية: رشاقة وعيون ونباهة، بينما ريماي قصيرة، سمينة ذات وبشرة لامعة كأنها دهنت بالزيت. عيناها صغيرتان حمراوان، ابتسامتها تبدو مصطنعة رغم أنها تكون تضحك من القلب، أما صوتها المرتفع فهو البلية لمن يجلس بجانبها. تريد السيطرة على الحديث برفع صوتها، كما يفعل من يفتقد الحجة على كلامه فيرفع صوته.
اليوم تيقنت بايا أن الله أراد قطع علاقتها مع ريما وعائلتها وتمتد القطيعة إلى أصحابها أيضا. وكما يقول المثل: "أعرف من تصاحب، أعرف من أنت."
◄ أميمة أحمد
▼ موضوعاتي