بدر الدين عبد العزيز - السودان
مصيدة
كنت دائما ما اعتقاده صديقي، وعادة ما أراه صديقي، هو غالبا ما يكون صديقي. نلتقي أحيانا ونتسكع سويا بشارع البلدية الفقير بواجهات محلاته الجرداء، سوى بعض معارض الآليات التي تعمل بالكهرباء لرفع وضخ المياه.
ثم كنا نجلس على القواعد الخرسانية المتناثرة بفناء أتليه الغاص بمثقفيه، بأعماق السوق الإفرنجي المتلاشي والموارى خفية من عيون الأعراب. وأحلى نزهاتنا كانت على رصيف سور الجامع الكبير، حيث الباعة المتجولون وعارضو الكتب القديمة على رصيف سور الجامع الخارجي والمتسولات الصغيرات الرائعات يجبن ضيق المسافات التي بيننا يتجاذبننا في إلحاح لينتزعن بعض قطع النقد الحديدية ذات الفئات الصغيرة. كنا نحس وقتها أننا ملوك وفراعنة هذا العالم الفقير الجميل الشاحب الغني بزخم تنوعه.
لكني اليوم التقيته مصادفة كعادة تلاقينا في الغالب، أو حقيقة كنا نلتقي دائما مصادفة، ثم وأنا أقف أمامه مباشرة داهمني إحساس بنزعة ذات سمات لصوصية ضاجة ومكبوتة، تفور بداخلي وأنا أنظر مباشرة إلى عينيه الرائعتين، بل أنظر إلى ما داخل إنسان عينه اللامع الصغير. رأيت صورتي منعكسة هناك، أراني أتربع بداخل تلك العينين الغامضتين. أخذت أنظر إلى الوجود من هناك. تجتاحني فكرة في أن أسطو على العالم من هناك، من داخل عينيه. حقيقة انتهزت الفرصة؛ امتلكت عينيه بجمالها الأسطوري؛ سطوت على العالم من خلالهما.
دنوت من سيدة كانت تقف إلى جواري، ممتلئة الجسد وبديعة كقطعة سكر مذابة على كوب عصير من المانجو وبارد. معطرة بالخومرة ومدلوكة الجسد بعجينة الدلكة المعطرة. يا لعذابي، يا ويلي أنا، تأملتها، جذبني نقش الحناء على أنامل يديها ثم يمتد في شكل غصون حتى شمل رسغيها. وعلى قدميها ذات النقش الحنائي يمتد من على جنبات قدميها إلى ما يقرب من منتصف ساقيها.
مر وقت وأنا أتأملها، بينما هي كانت تحدجني بين الحين والآخر بنظرة خاطفة من أطراف عينيها ملقية بظلال هدبيها الكثين على وجودي حتى خلتني سأذوب بعتمة وكثافة تلك الظلال، هي نظرة لم أستشف منها شيئا، لاهي تخطت بي إلى حيث أفق القبول، ولاهي حطمتني متناثرا على جدار العزوف. ربما لأنني كنت منهمكا ومأخوذا في تأمل أنحاء جسدها البديع التكوين، أو ربما لأنني لم أشأ أن تقع عيناها بعيني المستعارتين من صديقي، ربما لهذا أو ذاك تحاشيتهما.
تساءلت في نفسي: هذان عيناه هو. هذا ما يراه هو. ما شأني برؤياه؟
حاولت انتزاع عينيه من جسد السيدة الممتلئ لأحولهما إلى أي مشهد آخر يقع يميني أو يساري وبأي زاوية تكون على المكان الفائر ازدحاما. أوشكت على العجز في محاولاتي، وبعد لأي استطعت.
نظرت بهما عبر ردهات عمارة سوق الذهب التي تتوسط السوق العربي الساطع بترفه الرأسمالي البشع، وهناك وقعت العينان على فتاة تبدو كخط الاستواء الفاصل بين الثراء والفقر، صغيرة السن ترتدي تايـيرا من الجينز الأزرق اللاصق، يغطي جزءا من فخذيها فقط، ولا يلتقي مطلقا وأطراف البلوزة الصفراء اللاصقة أيضا والكاشفة عن مساحة من بطنها لا تقل عن سنتمتر مربع بعرض امتداد خصرها الدقيق.
ما لفت نظري بتلك الفتاة هو لون الطلاء الذي كان يخضب شفتيها الممتلئتين. فبدوا معا كحبة عنب غامقة اللون وشهية، تقف أيضا كمشروب بارد ومثلج بلا كأس يحتويها، يمارس تحجيما عليها.
رمقتني الفتاة بنظرة جريئة وطويلة، حاولت الفكاك منها والهروب بعينيه من أمامها خشية أن يفتضح أمري في العينين اللتين استعرتهما، استلفتهما، استلبتهما حقيقة.
تقدمت الفتاة نحوي، أمسكت بيدي وقادتني لتعبر بي، سرت متهافتا إلى جنبها، اصطدم بأذني صوت السيدة التي كانت بقربي وهي تقول في شماتة: "خلاص، أريتو يشبه أبوه."
ثم التفت إليها وأنا انزلق عابرا وجميلتي العنبية الطعم والشكل. وقبل أن يكتمل عبورنا فاجأتني قائلة: "معك كم؟"
قلت في بلاهة المستلب من لبه وعقله متسائلا: "كم شنو؟"
قالت بجرأة ووضوح مخيفين: "قروش. معك كم في جيبك؟"
ارتبكت وأنا أتطلع إليها. لم أكن أدري شيئا عما في جيبي من نقود، فالعيون تخصه هو، والجيب يخصني، وعادة ما يكون لي.
◄ بدر الدين عبد العزيز
▼ موضوعاتي