عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هيام ضمرة - الأردن

ملائكة الشوق


هيام ضمرةرحلة متأخرة، إنما تفسح متسعا للوصول والتقاط مساحة كافية للراحة قبل بدء فعاليات المؤتمر الاقتصادي العالمي، والمباشرة في أعماله الهامشية كعادة الكثير من هذه المؤتمرات، هي فرصة لقاء لا تتفلت من بين أيدي المشاركين من محركي اقتصاد العالم.

أقلعت طائرة الإيرباص العملاقة في رحلتها العادية، تمام الساعة الثامنة صباحا، متوجهة إلى الدار البيضاء عروجا على العاصمة الفرنسية "باريس" على نحو مطمئن يوحي بالأمان والاطمئنان، وبمحاذاة النافذة جلس عواد بارتخاء ظاهر، شاب مهندم بحلته الشانتون الرمادية في عقده الرابع، وفي حوزته جواز سفره الذي يعلن عن هويته الشخصية، مؤكدا عزوبيته ومهنته التي تقول. إنه خبير دولي في هندسة الاتصالات الإلكترونية ومدير فني في شركة إعمار دولية، يربت بأصبعيه على حقيبة جلدية سوداء استقرت على ركبتيه، تبدو عليه ملامح الأبهة والوقار، هادئا تماما، مسيطرا على حزمة أعصابه بشكل رصين، تتلاعب عيناه على المقاعد المجاورة بحركة سريعة مستطلعا نوع الرفقة، فقد ألف السفر والتنقل الجوي الطويل، وأصبح مسكونا بمراسمه المعتادة، بل صار وجها مألوفا ينال المعاملة الخاصة من قبل موظفي المطار، ويحرصون على التواصل مع آخر أخباره، ويُعامله طاقم المضيفين بخصوصية ظاهرة، فيما المضيفات مدفوعات لتلبية ما اعتدنه من طلباته دون حتى أن يطلبها، يطربه ودَّهُن وألفتهن، إنها مجرد مشاعر تحكمها قواعد المعرفة لإشباع الإحساس بالتقارب، مظاهر تمنحه إحساس بالراحة، وإن كان لسان حاله، يقول:

"أوراق العمل التي سأستعرضها اليوم جاهزة تستقر داخل حقيبتي، وأمامي متسع من الوقت حتى المساء موعد اللقاء، إنما أنا متعب وقد أعياني جهد متابعة العمل حتى وقت متأخر أمس."

كان يبدو منهك القوى ولا ريب، وقد أسند رأسه على ظهر كرسيه ودفعه قليلا للخلف على أمل نيل حصة من الاسترخاء خلال الرحلة، وراح يرقب الأشياء على الأرض من نافذته وهي تتضاءل حتى تختفي، ثم تفصلها طبقة الغيوم الكثيفة حين أصبحت الطائرة على ارتفاع الثلاثة آلاف كم، رغم أنه اعتاد هذا المشهد، فإن معاودة تأمله في كل مرة تمنحه متعة الإحساس بانفلاته مع انفلات جسم الطائرة عن حدود الجاذبية الأرضية، وطيرانها بسرعة وأمان، ليتقوقع عالمه ضمن مساحة هذا الصندوق الطائر وعالم ركابه، يشتركون ذات المصير وذات الهدف بالوصول إلى عاصمة المغرب العربي، حيث يذوب الجميع هناك في تضاريسها وتمنحهم مساحاتها وقع خطى مسكونة بالشوق.

لم تكن الساعات الأربع التي استغرقها في النوم الليلة الماضية كافية لتمنحه الراحة التامة، فقد كان عليه أن يصحو مبكرا استعدادا للسفر والتواجد المبكر في المطار، وإن كان أنعشه نسيم الصباح المار عبر امتداد المزارع المخدومة الخاشعة بخضرتها الخلابة، ووهج أشعة الشمس الوليدة وهي تلعق بقايا الندى عن أوراقها، يظللها السكون على جانبي الطريق المؤدي للمطار، فيما الليل يفتح أزرار ثوبه الأخيرة عن صدر الضياء، معلنا عن ميلاد نهار جديد، بأحداث ومستجدات جديدة، ورغم هذا لم يستطع ذهن عواد إلا أن يجوب صور المتوقع مما يجلبه هذا المساء من أحداث هامة لصالح عمله، مثل العقود المتوقعة، وتأثير الحركة المالية الدولية وذبذباتها المفاجئة، والمداولات الاقتصادية على هامش المؤتمر، والسمات التي ستحدد وجهة سفره المقبلة في أعقاب تقديم تقاريره ومقترحاته لرؤسائه في مركز الشركة الدولية في دبي.

بيد أن استمراره بالسفر متنقلا بين عواصم العالم جعلته مصدر حسد الكثيرين، فليس السامع كالمجرب، فمن عساه يُدرك أن سفر العمل قد لا يتيح فرصة ولو ضئيلة لتسوق الاحتياجات، لأنها استغراق مغرق بين الفندق وموقع العمل؟ ومن عساه يُدرك أيضا حجم الوقت والجهد الذي يقضيه في المعاملات الرسمية والمخالصات الجمركية، إضافة إلى مخاطر السفر نفسه وهو مُعلق بين الأرض والسماء قد تتقاذفه لحظة قدرية تنفذت من خُرم إبرة بقدرة إلهية، وكيف أن مواعيد الطيران لا تراعي مواعيد الراحة الشخصية أو أوقات النوم، وقد تقتلعه من أحلام تملأ رأسه بالهناء أو تنتزعه من مناسبة تعبأه بفرح المشاركة، ومن كذلك يتبين مدى الانفعال الذي تتسببه مناقشات العمل الممهد لعقد الاتفاقيات، إن مثل هذه المداولات تحتاج إلى كياسة وحنكة وسعة صدر، وفنية اتصال وإدارة، وتعبير ذكي مُرَّكَز، إنها فنون قتالية مسالمة بل دبلوماسية محنكة، إنها كفاءته التي برع بها وبسطت له النتائج الباهرة على أرضية فاخر.

لم يدرِ ماذا كان آخر ما ارتشفه من كؤوس استذكاراته، فقد أكثر التثاؤب قبل أن ينزلق إلى فوضى أحلامه، تلك الهاربة دونما سيطرة من مخزن اللاشعور، فالطبيعة لا بد وأن تأخذ مجراها، والجسم لحوح بالمطالبة بحصته الكاملة من النوم، ليتعبأ من جديد بطاقاته، وعواد مُطمئِن وذهنه بات هو الآخر معبأ في طرود، جاهزة لوقتها المناسب.

وها هو ضجيج الرحلة من هدير الطائرة، خليط الأصوات الصادر عن شاشة العرض السينمائية، لغط المسافرين وحركة المضيفات والمضيفين، والهواء البارد المسكوب على وجهه، وكأن كل شيء بات في حواس عوّاد غارقا في الترانيم المنّعِسة، تفترش لروحه مهاد النوم، والحياة في داخله تتدفق مع الأنفاس وتعلن عن وجودها بجوقة حركة رئوية ترفع وتُخفض صدره بتذبذب إيقاعي، توائم نبضات قلبه وهي تعزف على أوتارها المرتخية.

تراخى تماما وروحه تنزلق في ابتعادها، مستغرقا في سبات عميق، وقد انقلب رأسه إلى الوراء، فارتخى فكه الأسفل وتهاوى، انفرجت شفتاه وعزفت أنفاسه ترنيمة شخير منتظمة تتردد بين الصعود والانخفاض، مات موتته الصغيرة مستسلما لعالم أحلامه المُنسل، وهي تدُب على شاشة عرض حرة.

في الجانب الآخر من الطائرة جلس رجل وزوجته وبينهما طفلهما ابن الثانية، تُعجزهما المحاولة في كبح جُماح شقاوته، ومُحاصرة حيويته. وفي هذه اللحظة كان الطفلُ المعبأ بالحيوية مستعد لمقلب الشقاوة وقد أثارته وضعية عوّاد، فانزلق عن مقعده وبحركة بطيئة انسل نحوه كمغامر يوشك أن يسجل لحظة إنجاز، ينقل بصره بين والديه والركاب الآخرين، ووقف بحجمه الصغير ونظراته الفاحصة متأملا سكينة عوّاد، وشفتاه الصغيرتان تطبقان على قطعة الحلوى (المصاص) داخل تجويف فمه، فيما مقبضها البلاستيكي يبرز خارج فمه، وحركة بطيئة للسانه وهو يلعق حلاوتها توضحها انقباضات وجنتيه. لمَحَته والدته فاستنفرت تعابير وجهها وهي تأمرُه بالعودة إلى مقعدِه. رمَقها بلا مُبالاة دون أن تُبدي مَلامِحُه أي تعبير كرد فعل لشكل تعنيفها، وقف بُرهة دون حِراك قبل أن يرتكز بكفيه الصغيرتين على المقعد الفارغ المجاور لمقعد عوّاد، ويرفع ركبته اليسرى متسلقا المقعد ومُنتصبا بوضعِية الجلوس كأيِّ شخص ناضج عثرَ أخيرا على مقعده، مما أسكَن قلق الأم وطمأن بالها، فأشارت له بيدها إشارة السكينة، وعادت إلى صفحات مجلتها تُغرق فيها عينيها وذهنها.

استراح الطفل إلى انشغال والدته عنه وهو يَزِجُ داخل عينيها فحوى المُهادنة بانتصار، نظر حوليه بتؤدة، وبهدوء المناور استدار مُتشبثا بظهرِ المقعَد مُستعينا على الوقوف، استراح إلى اتساع مجال الرؤية فراح يجول بنظراته في الوجوه، ليستعيد دهشة التأمل في وجه عوّاد وحنكه المرتخي وفمه الفاغر، وليكتسِحُه رذاذ الشوق المتشاقي والوثب بين نداءات الفضول لتساؤلات يبدو أنها أرهقته. وفجأة ودون أي مقدمات، قرر الطفل التخلي عن قطعة الحلوى التي في فمه، سحبها وهو يمعن التحديق في جوف عوّاد الفاغر، قبل أن يتخذ قراره الأخير ويُقحم قطعة الحلوى داخل فم عوّاد المفتوح، فانتفض عوّاد من نومه مفزوعا، تنفتح حدقتا عينيه على وسعهما، فيما يُحاول بَصق قطعة الحلوى وسط سعاله المختنق، ودهشة المفاجأة تثير زوبعة على ملامحه، مما أثار مظهره هذا حفيظة الطفل فرفع يده وهوى بكفه الصغيرة على وجه عوّاد بتحفز ظاهر، دوى صوت اللطمة في اللحظة التي ندت عن عوّاد صرخة فزع، قبل أن تستوعب حواسه مجريات المشهد، وليُطلق الطفل عقيرته بالصُراخ فزِعا.

مرَّ المشهد بحذافيره أمام الصبية الجالسة بمقعدها خلف الأم مباشرة، وأمام فكاهية المشهد انفرط عقد الضحك لديها متفلتا دون أدنى قدرة على استخدام المكابح، راحت تضحك وتقهقه ملء شدقيها، وما من قدرة قادرة على إيقاف هذا التدفق الجارف من الضحك، فقدت تماما انضباطها وذهنها يُعيد المشهد مرات متتالية، تضغط على صدرها في محاولة يائسة لإهماد تدفقه فيما تنفض أصابع يدها الأخرى دلالة على عدم قدرتها على إسكات حُمى هذا الانفجار، مما أثار حفيظة عوّاد وراح يقذفها بنظرة غيظ نارية، إلا أن ذوقياته التي اعتادها أتاحت فقط مجالا لأن تند عنه مجرد ابتسامة باهتة حرجة.

بيد أن استمرارها المتواصل بالضحك عظَّم غيظه، فوقف مُنفعلا حاملا الطفل بين يديه ومتوجها نحوها، وقبل أن يضعه في حجرها، كانت ساعدا الأم تتلقفه وهي تعتذر دون أن تدرك المجريات التي أثارت حنق الرجل وضحك الصبية، فقد كانت متغيبة تماما عن وقائع المشهد.

بيد أن الزمن المتبقي من الرحلة ظل مصدر قلق للاقتصادي المسافر، فكلما تلاقت نظراته بنظرات الصبية حتى تعاودها هستيريا الضحك، فتدفن وجهها في حقيبة يدها الجلدية ومن خلفها تهتز أكتافها بشكل مستفز، ورغم الرعاية الخاصة التي تلقاها من طاقم المضيفين بحكم عمق العلاقة، ومحاولته إشغال الوقت الأخير من الرحلة بالانهماك في مراجعة أوراقه، إلا أن شيئا خفيا جعله يداوم بين الفينة والأخرى النظر إلى الصبية مختبرا حدود تدفق الضحك لديها.

في أعقاب الانتهاء من المعاملات الرسمية للمطار، وكلٌّ يحمِلُ على ملامحه فرحة النجاة من عقدة السلطة عند موظفي الجوازات. تفشت وجوه المسافرين خارج بوابة المطار مع ضياء شمس العصاري، ابتلعتهم الدار البيضاء، ليصبحوا داخل دورتها الدموية حياة سادرة، تدور في فلك احتياجاتها، ففي مدينة تمتلك قدرة هائلة على صناعة دهشة الاستمتاع على الطريقة الشرقية المعتقة، والمفعمة بنسائم عبق تلاقي الحضارات قديمها بجديدها، ستجد أن أنفك سوف يلتقط شذى الأندلس المتسرب من ذاكرة التاريخ في كثير من ملامحها العمرانية والاجتماعية، ليالي سمرها وأنسها، أفراحها وأتراحها، أسواقها وصناعاتها، فضياتها، خشبياتها، قفاطينها بأنسجتها المشغولة بخيوط الذهب والفضة والكتان، شوارعها المنتعشة بضياء القناديل، مآذنها المزروعة في الأحياء، ودور العلم والمكتبات العريقة المزدانة بكنز المخطوطات النادرة. وغرائب ما يُتاجر به في أسواقها الشعبية، وأهازيج تشحنُك بالكبرياء وتمنحُك الفرح على سخاء ضارب، وإذا بك مسحورٌ بعالمها، مذهولٌ بطبيعتها، غارقٌ تماما في دهشة صورها، مأخوذٌ بها حتى التلابيب.

وفي حمأة نشوة حوار الاتفاقيات، وتنامي حِسبة الربح والخسارة، والالتفات للأسواق العالمية وانفتاح التجارة وشبق الاستهلاك، كان عوّاد كأي خبير اقتصادي يستعمل بمهارة لوح ركوب أمواج هذه الحوارات، ويُوقع بنجاح الاتفاقيات، كان مناورا ومحاورا حصيفا غير هياب، فالتجارة شطارة، وصناعتها مهارة الأذكياء، والسيد عواد طال باعه في هذا المجال، ولذلك حظيَّ بمركزه هذا كما حظيَّ بثقة مرؤوسيه. وسط هذه الأجواء وانشغال الذهن عما دون ذلك فقد تباعدت ذاكرة حادثة الطائرة، ونسي أمرها، ولم تتيقظ ثانية من مرقدها القاصي، إلا حين استقل طائرة الإياب وسقطت نظراته على أسرة، تضع الزوجة طفلا على حجرها وتُجلس آخر أكبر منه إلى جانبها بمحاذاة النافذة، لم يتمالك عوّاد نفسه إلا أن يبتسم للطفل وهو يرفع حقيبته الصغيرة إلى الصندوق العلوي، ويمنح الصغير قطعة حلوى كان قد نسي أمر وجودها في جيبه.

استرجع ذهنه تلك الذكرى وهو يعجب من أمر نفسه. أي مزاج ذلك الذي كان فيه لحظتها، وأي حنق وُلدَ خارج طبيعته. إنهم الأطفال، أحباء الله وملائكته النقية على الأرض، كيف لم يتنبّه إلى ذلك، ولم يستطع أن يفهم حقيقة تلك الواقعة في حينها. أدرك لحظتها كم عماه الاستفزاز وأذهب عنه عقلانية تفكيره، كيف أنه طوح واقعيته، كان استفزاز لا يُساوم وإنما يجرح العقل ويُقلص الذكاء. شعر عواد بأنه موجوع القلب وقد اكتشف كم آذى مشاعر ذلك الطفل، حين لم يفطن إلى تلك التضحية البالغة التي أقدم عليها الطفل بتخليه عن قطعة الحلوى خاصته، ليهبها إليه عن طيب خاطر، وقد تصوره بائسا في وضعيته تلك، وهل كان يسيرا على طفل أن يتخلى عن قطعة حلوى يستطعمُها وتُشكل وليمته المشتهاة إلى شخص غريب؟ عبَّر عوّاد عن ذلك بمواجهته لذاته:

"يا إلهي كيف غفلت ذلك. إذن صفعة الطفل الصغير كانت في مدركات عقله البسيط تعبيرا عن الاستنكار! وقد تصوّر الأمر على أنه الجُحود والتنكر للمعروف في الوقت الذي انتفضت أنا فيه من نومي مذعورا والسُعال يُطبق على أنفاسي. ليس ذلك وحسب وإنما حَقنته حالتي بالخوف وفقدان الأمن، حين كنت على وشك إلقائه في غير حِجر أمه! تُرى لو كنت متزوجا ولديَّ من الأبناء ما يُلقمني التجربة بالأطفال، هل كنت سأوذي مشاعر ذلك الطفل وأزرع في عقله الباطن في لحظة استفزازية ذاكرةُ مسننة؟"

أغمض عينيه، وكأنما يبحث عن مزيد من الاستجلاء، غاص في أعماق ذاته باحثا عن فسحة من الإشراق، وبرز صوت عتابه لنفسه بتساؤل. ما الذي يجعله مسترسلا في اندفاعه الكؤود إلى عمق التيه؟ ها هي العواصم والمدن تتلقفه وحيدا، يركب رواحل الأعمال الاقتصادية بانهماك سليط، يلتقطها ليحُط بها من جانب إلى آخر، تحمله أجنحة معدنية فوق سحائب بلا عُمَد، لتحط به على أرض بلا أهل، بلا أسرة تتلقفه بلهفة وشوق، وتودعه بأمل العودة بغنيمة السلامة، أسرة تشده إلى بيت ووطن، تُسكن روحَه في شغائف محسوساته، تُعزز وجودَه بالاستقرار. وكأنما وهو في حمأة ترحاله يُنافح زحمة المنافسة، قد تسحبت منه أهم أحلامه، بل أهم حاجاته، استغراقه بالعمل أخذه إلى مسافات بعيدة عن واقع حياته الخاصة واحتياجاتها، حقا قد حقق لنفسه الرضا بتحقيق الذات، إنما أين منه تحقيق الاستقرار والسكينة والامتداد، أين منه صدرا يأنس أن يتلقى رأسه، وكانت تلقفته صدور كثيرة لا تنفتح إلا لتنغلق على أشواكها. أحس أن التصحر بات واقعا في حياته، فأين منه زوجة تعبؤه بزخم الحياة الهانئة ومسؤولياتها، وأين منه ابنا تنتفض له جذوة التوق وحزمة اللهفة، أين منه قارعة تجوب عليها أحلامه وقد برز له طفلا ينتمي إلى جيناته، يقهقه بترنيمة فرح تغسل ببراءتها أذنيه، وعلى شعاعات الأمل ترتدي عينيه أولى خطواته، قبل أن يداهمه الأفول. ماذا كان ينتظر؟ ومتى سيفطن إلى حاجاته؟ وإلى أي قدر من العمر سينوء الحمل على كاهله قبل أن تمنحه الحياة ولد من صلبه تقر عينه على مستقبله؟

استغرب كيف أن هواجس الأمل لم تزره قبل هذه اللحظة، واكتشف أن عزوفه عن الزواج لم يكن إلا دوامة للغفلة أخذته في معمعتها مسلوب الإرادة. لقد كان في حاجة إلى هزة قوية تعيدُه إلى رشده، تُنهض فيه عفية مشاعره نحو دوره الإنساني الطبيعي.

وحين هبط عوّاد من الطائرة على أرض وطنه، كان عاقدا العزم على أن يُحقق هذه المرة مشروعه الخاص— للحياة ولنفسه.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2008     A هيام ضمرة     C 0 تعليقات