نورس يونس السليم - العراق
النوم بعيدا عن بغداد
أبي لديه خمسة أولاد. أنا أصغرهم. لحبه لقيم الجيش فقد أقسم أنه سيطوعهم إلى الجيش فور بلوغ سن كل واحد منهم ثماني عشرة سنة. وهكذا وجدت نفسي متطوعا في صفوف الجيش العراقي عام 1975. بعد مرور خمسة أعوام، أدركت أن من يدخل الجيش لا يخرج منه إلا مقتولا أو مجروحا أو أسيرا. وما زاد الطين بلة أني أرسلت سنة 1980 إلى جبهة الحرب العراقية مع إيران، الأمر الذي كان يعني احتمال موتي في حرب ليس لي فيها لا ناقة ولا جمل، وأنا إنسان يريد عيش شبابه في حياة هادئة. لذا بدأت أفكر ليلا نهار بطريقة تخرجني من الجيش، وجربت كل الطرق لكن دون جدوى.
في إحدى إجازاتي حدثني صديق صيدلي مهووس بالعلم أنه اخترع دواء يجعل الإنسان ينام سنينا عدة دون أن توثر هذه السنين على حياته، ولكن لم يصدقه أحد، ولم يجد من يوافق على تجريب الدواء عليه. سألته: "كيف للإنسان أن يتحكم بالمدة التي سينامها؟" قال: "إنني أنتجت خمسين حبة. كل حبة يمكن أن تنيم الإنسان عاما. وهكذا يأخذ الإنسان حبوبا بعدد السنين التي يريد أن ينامها."
أعجبتني فكرة أن أنام أعواما عدة، وعندما أصحو تكون الحرب قد انتهت، فأعيش شبابي بأمان. وإذا كان من المحتمل أن أموت في هذه التجربة فموتي مؤكد إذا بقيت في الجيش. على الأقل إن مت في هذه التجربة سأكون شهيد العلم.
قلت لصديقي: "أنا موافق أن أجرب هذه الحبوب." أخذت الحبوب من صديقي وذهبت إلى صحراء الأنبار وبنيت بيتا يحميني من حر الشمس وبدأت أتوقع كم ستطول الحرب، فأخذت ثماني حبات، واحتفظت بالبقية مع بعض النقود التي جعلتها جميعها دولارات، لأني كنت اعرف تقلب العملة العراقية، وما يمكن أن يحدث لها بعد بضعة أعوام. وضعت الحبوب والنقود في جيبي، ثم نمت.
بعد ثمانية أعوام استيقظت وسرت عائدا إلى بغداد. فرح أهلي بي إذ كانوا يعتقدون أني كنت مفقود. علمت أن اثنين من إخواني الخمسة قد ماتوا في الحرب. نظرت إلى البيت من حولي فلم أجد أخي احمد، فسالت عنه، فقال أهلي إنه يخدم في الكويت وأخبروني أنها تعتبر الآن محافظة عراقية بعد أن احتلها الجيش العراقي، وأن الولايات المتحدة تجيش الجيوش لضرب العراق. تساءلت في نفسي: ما الذي يحدث؟ عندما نمت كانت أميركا والكويت حليفتين للعراق. والآن أميركا ستضرب العراق. إذا نجوت من الحرب في المرة الأولى فلن أفلت منها في المرة الثانية.
في الوقت ذاته كانت الأخبار تتحدث عن أن أميركا ستنهي الحرب بسرعة لأنها لا تدخل في حروب طويلة. فكرت وقررت أن أنام ثلاثة أعوام أخرى كي لا أضيع شبابي في الحرب. ذهبت إلى مخدعي، وأخذت ثلاث حبات ونمت. وبعد ثلاثة أعوام صحوت وذهبت إلى بغداد فوجدتها غارقة بالجوع، والناس يتهافتون من أجل كيس من الطحين، الأمر الذي ما كان لعراقي أن يتخيله وقد عاش أيام السبعينات.
ذهبت إلى بيتنا فوجدت أن أحد إخوتي قد قتل في الحرب مع الأمريكان، وقد حل الفقر بأهلي فأصبحوا يعدون ملاعق السكر الذي أضعه في الشاي، فقلت لا يمكن أن أضيع سنين شبابي في الفقر: سأنام حتى يفك الحصار عن العراق. ولأن الناس كانوا يتكلمون عن أن الحصار قد يطول خمسة أعوام قررت أن أنام عشرة، كي يكون العراق قد تخلص من كل آثار الحصار.
صحوت بعد نوم دام عشرة أعوام. وسرت إلى بغداد وأنا أرى الأرتال العسكرية والمعسكرات حول بغداد. سألت صاحب السيارة التي تقلني عن سبب هذه الأرتال فقال: "ماذا بك؟ ألا تسمع ما يحدث في الدنيا وعن الهجوم الوشيك الأميركي؟" ثم شغل راديو السيارة فإذا بالأخبار تتحدث عن ضربة وشيكة، وهذه المرة الضربة ستستهدف بغداد بذاتها ونظام صدام، وتتحدث عن شركات الإعمار التي ستأتي بعد الغزو، وكيف ستتحول بغداد إلى سويسرا الشرق. فقلت لم أنم كل تلك السنين لكي أموت في الهجوم على بغداد. سأنام لآخر مرة، وهذه المرة الحرب سريعة، فقررت النوم ثلاثة أعوام لكي يكون العراق قد تعمر بعد الغزو.
طلبت من السائق أن يعود بي إلى الأنبار. نمت ثلاثة أعوام وبعدها صحوت وأصوات الانفجارات من كل جانب. فقلت: ما هذا؟ أحتى صحراء الأنبار لم تسلم من الحرب؟ ركبت الباص المتجه إلى بغداد وأنا استفسر من الناس عما حدث في سنين نومي فأخبروني أن نظام صدام قد أزيح. قلت الحمد لله أني تخلصت من النظام الذي جعلني أنام كل تلك السنين. وعند دخولنا بغداد قال السائق أمرا عجيبا: إذا كان هناك شخص من الطائفة الأخرى فلينزل أو فليتصرف كطائفتنا لأنه هناك مفرزة مسلحين.
وقفنا عند المفرزة التي كل عناصرها مسلحون ملثمون، وبدؤوا يسألون كل واحد عن كيفية الصلاة. ضحكت في نفسي وقلت هل من المعقول أن كل هذه المفرزة للتحري عمن لا يعرف الصلاة؟ أنه لتتطور جميل، ففي السابق كانت المفارز تتحرى عن الهاربين من الخدمة العسكرية.
فجأة أخذوا أحد الركاب وقتلوه فورا. السائق أكمل الرحلة بشكل عادي. سألت الناس عن الذي حدث. قالوا: "ألا تعيش في بغداد وتعرف بالحرب بين الطائفتين؟ قتلوه لأنهم اكتشفوا أنه من الطائفة الأخرى. انتبه لأننا عما قريب سنواجه مفرزة لمليشيات من الطائفة الأخرى فتصرف كتلك الطائفة إذا سألوك عن الصلاة.
قلت في نفسي: نمت ثمانية أعوام لكي تنتهي حرب العراق مع إيران، ونمت ثلاثة أعوام كي تنتهي حرب العراق مع الكويت، ونمت عشرة أعوام كي ينتهي الحصار، فإذا نشبت حرب بين الطائفتين فإنها لن تنتهي بعد مئة عام. حقيقة النوم بعيدا عن بغداد أفضل بكثير من العيش فيها. الآن فهمت لماذا لم يتحرك أحد من الناس عندما قتل أحدهم، فهو سيحظى بنوم إلى الأبد بعيدا عن بغداد.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ