ربا الناصر - الأردن
حـلـمـت، فـغـنـمـت
إلى جميع زميلاتي وزملائي في العمل أهدي لكم هذا النص، فمن معرفتكم ازداد حبي للحياة.
ثمة علاقة مبهمة بين الإنسان والأماكن التي يرتادها، علاقة عجز كثيرون عن تفسيرها، فعلى الرغم من احتواء الأماكن على جموديات لا تتحرك من مكانها إلا أن الذكريات تلفها كوشاح من الحرير المخملي، فتكسبها جمالا وفتنة، يأسران تفكير مرتاديها وتحتل جزءا كبيرا من شخصيته، فلا تمر لحظة إلا والشوق يدق جرسه بقوة، معلنا الحنين، فيعبر عنه إما بالشعر أو النثر أو حتى الكلام العادي المجرد من البلاغات والصور الفنية. هذا حال كل إنسان يستحق أن يقال عليه كذلك.
أما ارتباطي بهذا المكان فله حكاية أخرى وطعم مختلف، فهذا المكان أمكث فيه من الوقت أكثر مما أمكثه في بيتي، وعلى الرغم من صغر بيئته المحيطة إلا أنه في غضون شهور قليلة، أسر عقلي وسيطر على مجريات حياة فتاة في بدايات العشرين من العمر، مقبلة على الحياة بطموح فاق وسع السماء، محبة للخير لجميع من حولها. هذا المكان الذي يبعد عن بيتي مسافة لا يستغرق قطعها سوى ربع ساعة في كل صباح، غير أنها تحمل لقطات يومية تسجل كل يوم في حياتي.
فابتداء بشرطي المرور الذي ينظم حركة السير وكأنه لاعب "أكروبات" بإشارات يصنعها بيديه وبجسده المنتفض بالحيوية، التي قد تثير الابتسام في صباح يوم مشرق، ومرورا بحارس الكراج الذي يبتدئني بالسؤال عن أجرة الموقف بدلا من تحية الصباح، وانتهاء بالعجوز الجالس أمام العمارة، يجلس بحنو مثقل من هموم العمر. في كل يوم أرقبه من بعيد، ملتفحا بشماغه الأحمر، ينظر إلى الناس محاولا جذبهم لشراء الجرائد منه، ولحسن الحظ كنت إحدى زبائن أبي عماد اللواتي يداومن على شراء جريدة الدستور منه مقابل قروش قليلة يدسها في جيب بزته البالية.
بعدها أنطلق مسرعة الخطو حتى أستطيع اللحاق بالمصعد ليوصلني إلى آخر طابق في العمارة، ثم أدخل من الباب الخشبي للشركة وألقي تحية الصباح على موظفة الاستقبال ومن بعدها أتوجه إلى مكتبي، أنير أضواءه وأستمتع بسماع هدير محرك المكيف.
بعدها أجلس من وراء المكتب كالتلاميذ النجباء، أراقب من خلف زجاج نظارتي الطبية جميع الموظفين، أراقب نشاطهم وكأنه رجل يدفعهم بكل قوة إلى الأمام، وأستمع إلى تحياتهم المتبادلة بين بعضهم بعضا، التي تشبه صوت تفتح الزنبق الأبيض إثر سقوط قطرات الندى على بتلاتها الدقيقة.
ولكن، وللحظة مفاجئة، أخرج من حالتي هذه إثر صدى يعلو في الممر، عرفت أن مديري قد حضر بحقيبته المستطيلة، يمشي في الممر وقد سبقه ظله الطويل، يمضي قدما وهو مطأطئ الرأس وما أن يصل نهاية الممر حتى يرفع رأسه كاشفا عن عينين، الأولى منهما عين باحثة عن النجاح في الحظي بأفضل العروض والأخرى عين ناقدة لأدق الأخطاء والزلات العفوية التي قد تبدر مني.
ولكني رغم ذلك أشعر بالسعادة في بيئة كهذه تدمج كل من فيها في بوتقة واحدة، ألا وهي الانهماك في العمل، مثلما الحال مع زميلاتي في المكتب اللواتي ينغمسن في العمل بمجرد جلوسهن على مكاتبهن وكأنهن آلات ميكانيكية تعمل بمجرد الضغط على زر تشغيلها. لكنهن أوحين إلي بانطباع شجعني على تحمل مشقات العمل وتحمل وقت الدوام الطويل، فما أجمل صحبتهن في غرفة المكتب الهادئ والذي ينقلب وضعه رأسا على عقب بمجرد دخول نحلة الشركة، وهي السيدة ثريا التي تلقي ما في جعبتها من حكايا وطرائف من على عتبة الباب وهي على علم في أنها ستنجح في رسم البسمة على وجوهنا، بل هي تعلم جيدا أنها تنافس نوادر الجاحظ غرابة في الموضوع وبساطة في تركيب المفردات.
فكثير من حكاياها يثير الضحك وبعضها يثير العجب والتساؤل، لكنها في نهاية الأمر ترويح عن النفس وإثارة لمواضيع قد تستحق النقاش لكنها سرعان ما تنتهي ونرجع من بعدها إلى العمل حتى سماع دقات الساعة السادسة مساء، معلنة بدء خلو المكان من أناسه، فيبقى الصمت مطبقا بين جدران المكان حتى يحل الظلام بوقار، فيصبحا الاثنين سيدا المكان.
في الواقع أشعر في نهاية كل يوم أن أحداث يومي صارت ذكريات تخرج كنغم رقيق من قيثارة المساء وتدون في صفحة سمائي نجوما، منها أستنير ومنها أزداد ثقة بنفسي، فهي الشاهد الوحيد على تحقق حلمي في التعرف على أشخاص يحبون الحياة، ويرضون بروافدها سواء قلت أو كثرت، أناس لا يعرفون الأسى، صدقوني لقد حلمت، وغنمت.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي