عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نازك ضمرة - الولايات المتحدة

غياب


نازك ضمرةبينما كانت الأحلام تداعب عينيه، لاحت حمامة من مكان بعيد تحوم، تتجه صوبه، تهدئ من تحليقها، وتهوي قربه أسفل غصن رطيب فينان. تظاهر بعدم الاهتمام حتى لا تخشاه أو تجفل منه، لكن أنظاره لم تفارقها، تخطف روحه وتتخدر حواسه، تطير مبتعدة ثم تحط في مكان أمام ناظريه، تسري برودة في أوصاله.

أحسّ أنه معلقٌ مع ريشها، وكلما اقترب سرى به دفء وطعم أمان، تشاغلت عنه في هديلها، صار يسلي نفسه بعدها، ينزع بعض ريش الزغب يلهو به، وينثره على روحه التائهة يسترها.

تصادفه والدته مهموما في المساء، تسأله عن شكواه، قال: "إنها اليمامة يا أماه." تفاجأت والدته لكنها تمالكت، طمأنته إنها أضغاث أحلام، مشى في الصحو والمنام، ووالدته تدعو له بالسلام.

تراوحت مسارات اليمامة، حطت بعيدا، هاجته آلام مبرحة، وفي أماكن متعددة، صاح "بطني. بطني. آلام تنكد عيشي." قال الذين سمعوا صياحه:

= "إنه الجوع." وآخرون قالوا "سحر أسود."

فزاد اختلافا وهذى يقول:

= "ريش قوادم الحمامة المحلقة وخوافيها، برغم أنها منتوفة الريش، حمامتي حلقت ونأت، تراودني مجالات مكانها البعيد."

لمسوا رأسه، هدهدوا ظهره ورقبته، بسملوا وحوقلوا، نصحوا أمه أن تعثر له على شيخ مغربي، أما شقيقته بقسوة انّبته، دفعته أحيانا وعنفته، حرضت الأولاد عليه ولعنته، انتهرتها أمها قائلة:

= "أنت طفلة وعلى أخيك حاقدة."

تغيب شمس ذلك اليوم، ويظلم الليل، هاجت القرية وماجت، لم يبق مكان إلا ومروا به ولا ولدا إلا وسألوه، قال الكبار: " في الصبح ربح، ناموا لعله قضى ليله قرب جذع شجرة أو بين الأغصان."

ظل يغني طول ليله، عد إلى أمك أيها الطفل. لتقدم لك عشاء يشفيك، هذا الزمان والمكان للذئاب وللغزلان، عد لبيتك بسرعة.

طال بحث أهله عنه في الزوايا والأركان، تساءلت أمه مع الجيران، وعيناها تكادان من محجريهما تقفزان، دارت الحارات هاتفة هاذية. أخذت معها ابنتيها سميرة وفادية، وكلما مشت لدقائق في اتجاه، دعت إحدى ابنتيها للسؤال عنه.

ملّ الآهل وتساءلوا: "أين ذهب الملعون؟ لا شك أنه مجنون".

قالت أخته: "يحب الحمام الجوال."

انتهرتها أمها ثانية كعادتها: "هل أنت شقيقته حقا؟"

أثناء تحليقه متابعا يمامته، يراها تطير وتطير، تنأى عن كل من يعرف أوصافها، حلقت به بعيدا، رأى تضاريس جميلة، وجاور أماكن لم يألفها من قبل، أسعده التحليق والتشبث في هيكلها طول الليل، وحين حطت عند شجرة ضخمة عالية، جرّحته الأغصان المتشابكة، ازداد فزعا فتمسك بها وزاد من التصاقه، يطلّ الفجر ويجلي سواد الظلام، والشمس أنارت أعين الأرض.

أحسّ بجوع من جديد ومغص. "أين أمي؟" يشدد قبضته على جناحي اليمامة، ويبدأ رحلة العودة إلى أمه وأهله. وقبل أن تسأله أمه، احتضنته فرحة بعودته، بعدها سألته: "كيف اهترت ثيابك واعتراها البلى والتمزيق؟"

= "هيئي لي مكانا أرتاح فيه مع يمامتي يا أمي."

وكلما سأل الأهل عنه، أجابت أمه: "لندعه يأخذ المزيد من الراحة مع يمامته."

D 1 أيلول (سبتمبر) 2019     A نازك ضمرة     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 14: حتى لا تتكرر خيبة الأمل

لم يعد ثـمّة عطر إلا في القوارير

صباح

الكأس السابعة

الــغائــب