ربا الناصر - الأردن
حكاية امرأة سكنت بين النجوم
كثيرا ما يجتمع الأحفاد حول جدتهم في كل مساء، يستمعون بشوق إلى حكاياها عن أبطال صنعوا المجد لمجتمعهم، وبنوا تاريخا من حكمتهم، مثيرة روح القدوة والحماسة في نفوسهم البريئة، فكم من القصص التي سمعوها كان أبطالها من صنع الخيال، لهم مميزات جسدية منحتهم القوة في الانتصار على الشر، أبطال سكنوا سطور قصصهم الأسطورية فقط. لكن اليوم ستروى قصة فريدة من نوعها، ترويها حفيدة عن جدتها التي خلقت من طين عادي، دون أية مميزات جسدية قد تمنحها القوة كسابق أبطال القصص الأسطورية، لكنها استطاعت أن تصنع المجد واستطاعت أن تصقل شخصيتها من واقع حياتها المليء بالإحداث، مخلدة ذكراها بين نجوم السماء الساهرة.
بداية القصة:
وقفت أمام لوح المدرسة الأسود ممسكة الطبشور الأبيض بيدها، فكتبت عليه تاريخ ذلك اليوم: الرابع من شهر شباط لعام 1921 ميلادية، ثم دارت على عقبيها ومشت بين مقاعد تلميذاتها المتعطشات لمعرفة المزيد من العلم في زمن كان التعليم فيه مقتصرا على الذكور فقط، لذا كل واحدة منهن تختزن في داخل أعماقها أحلاما صغيرة، منها إكمال تعليمهن وإثبات ذاتهن فيه، فهو المنقذ من حياة الجهل وهو المخرج الوحيد إلى عالم النور والإدراك.
مشت المعلمة آمنة خطوات ثابتة الإيقاع وبصوت يعكس وقار رائدة في تعليم الإناث، شرحت درس اللغة العربية، والتلميذات يستمعن إليها منصتات ومدونات لملاحظات هامة. بعد انتهاء الدرس قرع جرس المدرسة وسرعان ما خلت غرفة الدرس من التلميذات، فلم يبق فيها سوى المعلمة آمنة التي جلست على الكرسي، متأملة أناملها المتسخة بالطباشير لكنها بالنسبة لها كان اتساخ يديها زينة فاقت نقش الحناء جمالا وفتنة.
توجهت بعدها إلى بيتها الذي تسكن فيه مع شقيقتها زينب وأخيها حسن الذي كان مديرا لدار المعلمين آنذاك في دمشق، وكان له دور كبير في إكمال تعليم أختيه اللتين غدتا فيما بعد علما مهما في نشر العلم والثقافة، مبتدئة مسيرتها التعليمية في دمشق التي أحبت الحياة فيها، فكثيرا ما تمشت في أزقتها الصغيرة ووطئت قدماها شوارع السوق القديم، ومشت في غوطتها تقطف البرتقال، وتصنع إكليلا من الياسمين، كانت تمشي في البستان مستمدة منه الاستمرار في حب الحياة والإقبال عليها.
لكن مع مرور الأيام بدأ الشوق تجاه الذكريات العابرة التي قضتها في مسقط رأسها وبداية تلقي علومها، يزداد يوما بعد يوم حتى أذن القدر، وعادت إلى إربد بعد تعيين شقيقها في منصب عال في وزارة المعارف آنذاك، تاركة ذكرياتها تسكن جدران مدرستها الصامتة والحسرة تعصر قلوب تلميذاتها اللاتي لن ينسينها أبدا، لكن الإحساس بحرارة شفق الغروب الأحمر وهو يغطي وجهها كل مساء وهي تقرا الكتب وسط تغريد الطيور من حولها، إحساس بقي عالقا في ذهنها طيلة حياتها.
عادت آمنة إلى إربد والإقبال على بداية جديدة ستكون هي بطلتها قد طغى على تفكيرها، فقد عينت معلمة في مدرستها الابتدائية التي درست فيها على يد والدها الشيخ علي عمر أبو غنيمة، عملت على نشر العلم وتخريج جيل من الفتيات المتعلمات والمقبلات على الحياة بعفوية وحب. وبعد مضي سنوات عديدة طويت سريعا من صفحات حياتها، وتنقلت خلالها بين العمل في إربد والحصن، بدأت تشعر برتابة الحياة من حولها وبدأت تحلم في أن تعيش حياتها الخاصة وتكون أسرة صغيرة تكون هي ملكتها.
ومع حلول عام 1938 تحقق الحلم وتبددت الغمامة من قلبها، ففي جلسة عائلية تعرف السيد عسكر الناصر عليها وتقدم لخطبتها وبعد أن تمت الموافقة أقيم حفل مهيب وسط حضور حاشد من أفراد العائلتين، يباركون زواجهما الذي أثمر ثلاثة أولاد، أكبرهم أكرم الذي درس المحاماة وتقلد عدة مناصب سياسية منها محافظ مدينة إربد، ويتوسطهم كامل الذي درس الطب في مصر اقتداء بخاله الطبيب صبحي أبو غنيمة، ولكن وفاته حالت دون إكماله مسيرته في العطاء، ثم يتبعه شقيقه الأصغر رفيق في دراسته للطب في رومانيا.
عملت المعلمة آمنة على إنشاء أولادها على حب العلم والجلد في طلبه، إلى جانب عملها في التدريس حتى أحيلت للتقاعد في عام 1960 وقد كانت مديرة لمدرسة إعدادية في مدينة الحصن العريقة، عاشت بعدها ما تبقى من عمرها تشاهد نتائج تعبها في نشر العلم بين الإناث واختلاف نظرة المجتمع تجاه تعليم المرأة، فقد استطاعت هذه البطلة وضع بصمة خاصة بها لطالما سنتذكرها في كل مناسبة، فلن يعيق غيابها الجسدي عنا منذ عام 1992 عن تذكر جمال روحها، وبساطة تعاملها مع الناس، فهي امرأة سكنت بين النجوم مذنبا يشع بطاقة العلم.
= = =
* أشكر العمين الفاضلين أكرم ورفيق الناصر على مساهمتهما في كتابة هذا النص.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي