وهيبة قوية - تونس
أمطار بريئة
لم تكن تدري كم مرّ عليها من الوقت وهي في طريقها الممطرة عندما بدأ انصباب المطر يتراجع، ولكنّه بقي قادرا على أن يمتّعها بخيوطه الرّفيعة المتدلّية من السماء في انسياب حريريّ بارد سرى مثل قشعريرة في كلّ جسمها ومع ذلك بدأ يُشعرها بالدّفء.
بقيت تمشي تحت المطر. وأحيانا تجري في وسط طريق مزدحمة بالمياه الجارية الّتي احتلّتها والّتي لا تعلم إلى أين مسارها. ابتسمت لفكرة أنّها أفضل من هذه المياه السّائرة على غير هدى، لأنّها هي تعلم وجهتها وتعلم أنّها ستصل إلى نقطة واضحة آخر طريقها. ما أكثر جنونها تحت المطر!
لم تهرب من فيضان المياه تحت قدميها ولا اتّقت خيوط الماء المنهالة على رأسها وكتفيها ولا احتمت بمكان أو بحثت عن الاحتماء. كانت تسير في اتّجاه آخر الطريق الّذي خرجت من أجله تعلّل نفسها بالوصول إلى غايتها...
واستسلمت للمطر في طفولة بريئة. وبدأت تجري تحتها. ثمّ شعرت بالإعياء فبقيت تمشي وتتلذّذ دفء المطر يتسرّب إلى مسامّ جلدها. أغلقت عنها كلّ حواسّها، وفتحت نوافذ روحها المحتارة تطلق لها عنان الجنون. وأخذت تسير مستعذبة التّمازج الغريب المتسرّب إليها في نشوة بين اشتداد برودة ماء المطر المتسلّل إلى جلدها وارتفاع درجة جسمها. يا لها من حُمّى! إنّها تُلهب الجسد وتوقظ في الرّوح الإحساس بأنّها تُبعَث من جديد في هذيان يتقبّله بشفقة جميع من يمرّ بجانبها مسرعا محتميا بمظلّته، وتستسلم له روحها في لذّة غريبة تستعذب ما فيه من الحمّى والقشعريرة الّتي تلفّ كلّ جسمها المبلّل. واستسلمت للهذيان. فكانت كلّما تقدّمت خطوات وكلّما تزايد هطول المطر ازدادت سعادتها. فلا أحد لمح الدّمع ينهمر من عينيها دافئا ولا أحد استطاع أن يعرف سرّ مشيها تحت المطر، أو ربّما كان من يراها يُرجع ذلك إلى الفوضى الّتي أحدثها المطر في الطّريق وإلى تأخّر وسائل النّقل بأنواعها عن مواعيدها. بل ربّما لم ينتبه إليها أحد من المارّين لأنّهم كانوا يحثّون الخطى للاحتماء من وابل المطر. وكم راقت لها فكرة أن لا أحد يراها! وظلّت تستمتع بما ينزل على رأسها وكتفيها من خيوط المطر فيشعل حمّى جسمها، وبما ينـزف من دمعها فيدفئ وجنتيها.
ولم تَطل بها الطّريق ولا متعة المطر. فقد انقطعت الأمطار واعتصرت السّحب قطراتها الأخيرة فوقها ، فمسحت عينيها بكفّيها تزيل أثر الدّمع.
***
ما أشبه ما يقع لها الآن بما كانت تعيشه وهي طفلة بين أحضان اللّعب في الشّارع عندما كانت تفاجئها الأمطار، فيفرّ من يفرّ من الأطفال وتظلّ هي تحت الماء المنهال ترفع يديها في ابتهال تمسك بقطراته بين يديها أو تملأ كفّيها من الماء المتساقط شلاّلا من الميازيب وتترك لقدميها حرّيّة الحركة حافيتين تستمتعان ببرودة الماء الّذي يزداد جريانه وهو ينزل أسفل المنحدر ليلتحق ببقيّة الجداول المتكوّنة في الأعلى والّتي يستهويها السّقوط إلى الأماكن المنخفضة وتظلّ هي تجري تحت المطر حتّى تتبلّل. عندما يتوقّف المطر،كانت تدفع برجليها الصغيرتين في كلّ برك الماء في حركات محمومة، تنسّق فيها ضرب الماء بقديمها مع امتداد يديها على الجانبين مثل طائر يحاول أن يجفّف جناحيه المبلّلين من ماء مطر فاجأه، ثمّ تراها تمسح شعرها ووجهها وتغسل عينيها بما يتجمّع في كفّيها من خيوط المطر. أحيانا كانت ترقص في حركة دائريّة تختلط فيها دوراتها بدورات الأرض حتّى تسقط فتتلقّفها بركة أو سيل من الماء. لم تكن تشعر بالبرد وهو يغزو عظامها الطّريّة ولا اشتكت يوما بلل ملابسها ولا اهتمّت بالأطفال الّذين كانوا يلعبون معها.
تحت المطر، لا أحد يرى دمعها الممتزج بقطرات الماء ولا أحد فَهِمَ يوما لِمَ تحمرّ عيناها ووجنتاها عندما تمطر السّماء. هي نفسها لا تعلم سرّ بكائها تحت المطر ولا ما كان يفعله الأطفال الّذين كانوا معها. كانت تعلم أنّهم يعودون حيث تقف وتراهم على نفس حالتها من البلل وعيونهم لامعة. ولم تسألهم يوما عن سرّ لمعان عيونهم ولا سألوها عن احمرار عينيها. فالوقت لا يكفي للأسئلة لأنّهم ينطلقون بعد المطر إلى سباق تجفّ فيه الملابس بحمّى لَعِبِ الطفولة البريئة. ولم تذكر يوما أنّها عوقبت على مثل هذا الصنيع. فكلّ الأطفال تفاجئهم الأمطار ويتبلّلون.
***
لم تكن مفاجأة المطر للعبِها يوصلها إلى النّشوة الّتي تصل إليها مع مطر طريقها إلى المدرسة. فأمطار طريقها إلى المدرسة لها متعة مميّزة. وتذكر إلى اليوم أنّها استطاعت أن تشرح في الفصل الثّاني ابتدائيّ التّشبيه" كأفواه القرب"دونا عن كلّ التلاميذ لأنّها كانت تعرف أنّه يعني انفتاح السّماء بالماء المدرار ووابل المطر الّذي تحبّه.
في طريقها إلى المدرسة كانت ترافق جدولا يتكوّن من مياه الأمطار يمشي معها في طريقها. وكانت تحبّ أن تشقّه حافية القدمين وتنـزل معه في انحداره تسابقه فيسابقها ويَسْبَقُهَا فلا تغضب ولكنّها تترك رجليها وقد غمرتهما المياه فتغسلهما فيه مرّة وتبعدهما عنه مرّة وتشقّه مرّات وتقفز فوقه بوثبات متتالية. لم تخف يوما أن تقع في الماء. فقد كانت تحاول أن تكون رشيقة القفز في حركة أشبه بالرّقص على الماء أو مع الماء. كانت تشعر بلذّة كبيرة ومياه الأمطار تغمرها في حريّة وكانت تحبّ أن تعانق مياه الأمطار وترقص معها على سيمفونية انهمارها وتطير مع قطرات المطر حين يبلّلها وتقفز هنا وهناك مشرعة الذّراعين قبل أن تضمّهما إلى صدرها تعانق ما يعلق بثيابها من مائه ذي الرّائحة العطرة الّتي تظلّ عالقة بروحها حتّى مطر قادم.
لم يكن الجدول يواصل طريقه معها إلى المدرسة فقد كان يواصل طريقه إلى المنحدر، وتنعطف هي إلى اليسار. فتتوقّف عند واجهة أوّل بيت تمسح رجليها وتلبس حذاءها وكأنّ شيئا لم يكن. وأحيانا تواصل الطّريق مع جدول انفصل في سيره عن جدول الماء إلى المنعطف يوصلها إلى المدرسة رفيقا لا يبتعد عن خطواتها. وعند باب المدرسة تلتزم بالدّخول إليها في هيأة تلميذة أنيقة تلبس الحذاء والميدعة وتحمل حقيبة المدرسة قد فاجأتها الأمطار فتبلّلت مثل الجميع، وشعرها مبلّل مثل الجميع. فلا أحد ينتبه إلى ما يخالف أو يختلف خاصّة وأنّ تحت شعرها هي رأس مليئة بما حفظته من دروس وفيه حلول لأعقد مسائل الدّرس أيّا كان.
لم تعد تمتلك هذه الرّأس أو لم تعد تعرف ما فيها سوى بعض البقع البيضاء الّتي تزحف على ذاكرتها فتضيء نقاطا منها بحسب الظّرف الّذي تمرّ به وتبتلع ببياضها نقاطا أخرى تعرف كم هي في حاجة إليها ولكنّها لا تجدها ولا تراها. ربّما كانت الأمطار وقتها هي الّتي ترتّب أفكارها ولا تشوّش ترتيبها. وربّما هي براءة الروح التي لم تعرف سوى أن تكون الأكثر تهذيبا والأكثر طيبة والأكثر قدرة على تحمّل الآخرين وعلى حبّهم. وأحسّت في تلك اللّحظة أنّ هذه الرّوح قد انسحبت منها منذ تخلّت عن اللّعب مع المطر وفي المطر. واكتفت بالنّظر إليها من خلال نوافذ مغلقة بعد أن كانت مشرعة ترى منها كلّ جميل في الحياة وترى حبّ الآخرين لها وحبّها لهم.
تطوف الأفكار برأسها وتخرج منه لتَمثُل أمامها وهي في طريقها تتقدّم ولا تعي ما حولها. هدفها واحد وهو أن تمشي تحت المطر وأن تصل إلى آخر طريقها.
= = = = = =
من قصّة : آخر الطّريق ... بداية رحلة
بقلم: وهيبة قويّة (من تونس)
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
أمطار بريئة, أشواق مليباري | 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011 - 12:37 1
( ياطفلة تحت المطر.. تركض واتبعها بنظر..
تركض تبي الباب البعيد.. تضحك على الثوب الجديد.. ابتل! وابتل الشعر..*)
عدتي بنا يا استاذتي بأمطارك البريئة، ودموعك، ولعبك تحت المطر إلى أيام جميلة مرت على سطح بيت جدي ورائحة طينه المبتل بالبركة، ونساء يهرعن إلى الغسيل المنشور، وصوت " طلال" من التلفاز الصغير، ودخان يتصاعد من مطبخ جدتي يبشر بالغداء الشهي، وطرقات مبتلة ضيقة يقطعها جدي مستعينا بعصاة ليصل إلى الحرم المكي رغم اعتراض جدتي و خوفها عليه، المطر الثمين النادر يستحق أكثر من مجرد كلمات..
اعتذر عن تطفلي على نصك، لكنها ذكريات تسكننا وتنتظر نصا جميلا كهذا كي تخرج..
شكرا لك
*الشاعر بدر بن عبد المحسن
1. أمطار بريئة, 9 كانون الثاني (يناير) 2012, 16:11, ::::: وهيبة قويّة
الصّديقة أشواق مليباري:
مع كلّ مطر أتنفّس عطر حقل جدّي، وتتراءى لي جداول الماء المتجمّعة إلى أسفل الهضبة، وألاحق الصّور في ذاكرتي. أشعر أنّها مثل فيضان مياه الأمطار تغرقني فيها... نفس الذّكريات: الغسيل والدخان والأطفال....
قلمك له سحر أشواق وسننتظر أن يمطرنا بمطر ذكرياتك مع جدّك، شوّقتني، وأعرف مسبقا أنّك ستكتبين نصّا جميلا.
لك أجمل تحيّة من تونس.
أمطار بريئة, Olfa..Tunisie | 1 كانون الثاني (يناير) 2012 - 08:23 2
"فلا أحد لمح الدّمع ينهمر من عينيها دافئا.. ولا أحد استطاع أن يعرف سرّ مشيها تحت المطر..!"
جميلة الشوارع المبللة بالمطر .. .. فتغرينا بالمشي تحت مطر.. لنتذكر اننا انسان يمكن ان تبلله المطر...
و بين الامس واليوم خطوات طفلة في المطر..
كعشق طفلة لخطوات تحت المطر...
هو عشق المطر..هو جنوون المطر..
1. أمطار بريئة, 9 كانون الثاني (يناير) 2012, 16:16, ::::: وهيبة قويّة
ألفة:
كريم هو المطر.
يحمل إلينا ذكرى من نحبّ. فينهمر في الرّوح ويطهّر مسامّها من الغياب ويبعثه إلى ذكرى حميمة دافئة.
فنمشي تحت المطر في الشّوارع ونجري...
عندما نتبلّل نشعر بالحياة. ففي مياه المطر سرّ ينهمر بانهمارها ويختفي بين الغيوم مبتسما. للمطر سرّ لو عرفناه يوما فسنستمتع أكثر بمرح الطفولة سنتسلّل بين حبّاته وننهمر بسخاء على وجه الأرض نرشف عطرها.
أمطار بريئة, فنار عبدالغني- لبنان | 4 كانون الثاني (يناير) 2012 - 08:50 3
لوحة فنية رائعة ,شعرت بأني قد دخلت الى داخل اللوحة وشاركت البطلة احلامها وتاملاتها وانصت لاغاني المطر هل تعلمون ان للمطر اغاني ؟
1. أمطار بريئة, 9 كانون الثاني (يناير) 2012, 16:22, ::::: وهيبة قويّة
فنار عبد الغني:
للمطر أغانٍ جميلة... فلنسمعها معا.
هذا بدر شاكر السيّاب يلقي علينا أنشودة المطر: مطر مطر مطر!!! ينسكب قصيده في مسامعنا عذبا. وهذه قطرات متبقّية من سحاب يعبر سماءنا، له نشيج، وصوت جميل نسمعه ونحن خلف زجاج النوافذ نراقب كيف يصفو الجوّ بعد مطر غزير.
كم غنّينا أطفالا مع المطر... سنغنّي مع المطر كلّما انهمر.
أمطار بريئة, زهرة-ي-الجزائر | 10 كانون الثاني (يناير) 2012 - 08:01 4
عزيزتي وهيبة
لقد تغلغلت قصتك في اعماق روحي السحيقة، ودغدغت طبقات ذكرياتي البعيدة، فوجدتني اعرف هذا المطر، وكاني اشم ريحه،مطر الشمال الغربي من تونس الحبيبة، وثلوجه الكثيفة ايضا. لقد هيجت اشجاني واثرت حنيني باسلوبك الوصفي الدقيق، المنساب انسياب جداول ووديان تلك المناطق الاليفة.
دمت متالقة ومتانقة في كتاباتك،وفواحة كعود الند.
زهرة-ي- الجزائر
1. أمطار بريئة, 27 كانون الثاني (يناير) 2012, 06:36, ::::: وهيبة قويّة
إلى زهرة الجزائر الشقيق
نعرف المطر... دائما كما عرفناه ونحن أطفال في ساحات اللّعب، نمارس ألعابنا الّتي يوحيها إلينا عندما يتركه بِرِكَهُ تحت أرجلنا الصّغيرة، وفي تشكيل وحله بأيدينا، وفي رائحة الأرض الّتي تشرب في انتشاء مياهها... في ركضنا تحت حبّاته هربا واحتماءً أو سباقا... في إسراع أمّهاتنا إلى حبال الغسيل مسبّحات بحمد من فتح أبواب السّماء بالغيث النّافع وآسفات على ما تبلّل من ثيابهنّ مناديات علينا لندخل البيت ونحتمي من البلل...
وفي التجائنا إلى حضن أمّهاتنا باحثين عن الدّفء، وفي كوب الينسون والشّاي بالنّعناع واجتماع العائلة... في "تكتكات" إبر "التريكو" الرّتيبة بين يدي أمّي أنا، تصنع صدارات الصّوف بإبداع لتقي أجسادنا الصّغيرة من برد وبلل... في أسمار جدّي رحمه الله على بطولات بني هلال وعنترة وسيَر الصّالحين، في دعاء جدّتي لنا بأن نسلم من غزو برد الشّتاء إلى مفاصلنا ونحن خارجون إلى المدرسة....
وفي كلّ ما ذكرتُه أنا في هذا النصّ بسذاجة طفلة، وفي ما كتبتُه في قصّتي الّتي منها هذا النصّ.
ونعرفه... في كره هذا أو ذاك لأنّ البلل يغزو جسده الضّعيف فلا يجد كيف يدفئه، وفي حلم فقير جائع مقشعرّ جسمه يحلم بخصب الرّبيع....
في كلّ هذا وأكثر، يظلّ المطر حبيبا إلينا، يعطّر أنفاس الأرض ويعطّرنا ويلقي الخصب حتّى على لسان القلم.
شكرا لك زهرة، وأشاطرك رأيك في ما قلته عن شمالنا الغربيّ التّونسيّ المشترك الحدود و"المعابر" بين بلدينا... أنا من شمال تونس الأقصى، من عالية بنزرت، مستقرّ الأندلس على خصبِ أراضٍ رومانيّة سمّوها "أوزاليس".