زكي شيرخان - السويد
طاغية صغير
"لم توفّق، كما أظن، في اختيار العبارة الصحيحة،" قالتها دون أن تظهر حتى النزر اليسير من الاستياء الذي اعتراها، "لم أرغب أن أضمك إلى مقتنيات عائلتي، كما قلتَ، لأنكَ لست قطعة جامدة يُزين بها جدار، أو تُركن في زاوية منزل،" أعطت لنفسها وقتا لكتم غضب بدأ باجتياحها، " إن كنتُ قد ولدتُ وفي فمي ملعقة ذهب فهذا ليس ذنبا ارتكبته، ولم يكن خيارا."
مُركّزا ناظريه على أوراق على منضدته يقلّبها، "لقد وجدتُ نفسي في موقف محرج أمام والدكِ وهو ينهال عليّ بأسئلته، وطريقته المتعالية."
"ولكنكَ رددتَ له الصاع بصاع، وأسمعته ما لم يجرؤ أحد أن يقوله ولو همسا. سمعت بعض ما دار بينكما."
"يمكنني غض النظر عن الكثير من الأمور، إلّا المس بكرامتي، خاصة إن كانت مقصودة، كما حاول أبوك."
"لقد أوضحتُ لك كل شيء، تقريبا، عن والدي." قالتها وكأنها تعتذر عن تصرف والدها الفظ.
"مضي أربعة عقود ليست كافية لمحو تاريخ ما زال الكثير من شهوده أحياء. لن يستطيع، مهما بذل، أن يُنسي الناس من كان، والكيفية التي أصبح عليها،" سكت برهة، ثم استدرك "لست بصدد الإساءة له، ولا الحط من مكانته التي وصل إليها، لكن هذا هو الواقع."
أدركت أنها اختارت المكان غير المناسب للخوض في قضايا شخصية بحتة، "بعد الدوام، أود أن ألتقيك في المكان الذي اعتدنا عليه، إن لم تمانع."
* * *
هما يعملان في نفس المؤسسة. هي، على درجة من الجمال. هادئة. تمتلك قدرا كبيرا من الرزانة. لا يدل ما ترتديه، ولا تصرّفها على أنها أبنة تاجر كبير ممن أثروا بعد حروب ثلاثة، وحصار دام سنوات طويلة رفعت قلة قليلة وسحقت أغلبية غالبة. هو، شاب يقاربها سنا. لم ير والده، فقبل أن ينقضي على ولادته عام واحد قتل والده في حرب الثماني سنوات. والدته لم تتزوج ثانية. عاشا على راتب والدته المدرّسة، والمعونة التي تكفل بها والدها. بالرغم من تفوقه الدراسي إلّا أنه كان مجبرا على الحصول على وظيفة مكتفيا بشهادة الإعدادية.
بفطنة يتصف بها، لم يخف عليه إعجابها به، لا بل أدرك أن الإعجاب تحول لحب مع مرور الأيام. كان صريحا معها، وأخبرها عن وضعه، وما عاناه من الكفاف في عيشه، دون أن تخبره عن حقيقة وضعها العائلي ظنا منها أن والدها لن يمانع في تزويجها به لأنها كانت مدللته، كما كان يدّعي. خططت معه حياتهما المستقبلية. كانت تُيسّر له كل شيء، "سأكتفي بخاتم خطبة فقط، وليس هناك من داعٍ لحفلة زواج. راتبك وراتبي يكفينا." كانت آراؤها أقرب ما تكون للسذاجة منها للمثالية، هكذا كان يعتقد، وإن لم ينطقها بلسانه. "ليس هناك ما يبرر تأخرنا. أعتقد أنه آن الأوان أن تقابل والدي ليتعرف عليك."، أضافت "يجب أن أخبرك عن وضع عائلتي."
كل ما أخبرته كان مفاجئة لم يكن يتوقعها. "أفضّل أن نؤجل المقابلة قليلا. احتاج لبضعة أيام لاستيعاب الصدمة." هذا كل ما استطاع أن يقوله.
حاول لأيام أن يجد تفسيرا: "لماذا لم تخبرني عن وضعها من البداية؟ كيف يمكن لمن مثلها الرضا بالأدنى بعد أن طعمت الأرقى كل حياتها؟ هل تعاني من خلل تفسي؟ في الروايات والأفلام يستطيع الحب اختراق الحواجز الطبقية؛ أما في الواقع المعاش فلا."
* * *
"حسنا فعلتُ أن سألتُ عنه قبل أن التقيه. عرفت ماضيه، وكيف جمع ثروته، كِبْرُه. لولا ما عرفته ما كنت لأستطيع أن أرد عليه." قالها بشيء من غضب لن يستطيع كتمه مهما جهد. الغضب الذي لازمه منذ أن قابله.
"الآن؟" سألته. في عينيها تحدي من لا يمتلك إلّا المضي في طريق قاسٍ لألى يخسر كل شيء.
"ليتك سمعتِ كل ما دار بيننا، حتى تتفهمي ما سأقوله". ارتشف جرعة ماء: "لم اغضب عندما لم يصدق أني لم أعرف عن وضعه المالي إلا قبل أيام من لقائه. لم أجب سؤاله: هل تستطيع أن توفر لها مستوى الرفاهية التي تعيشها؟ واكتفيت: ظننت أنك ستسألني: هل تستطيع أن توفر لها مستوى سعادة لم تعشها؟"
"الكي هو آخر الدواء، كما يقال" قالتها بنبرة شابها حزن مكتوم. رغم أنه أدرك ما ترمي إليه، إلّا أنه بصَّ في وجهها يقرأ ما اعترى ملامحه ليتأكد من إدراكه.
"هل سيتركنا نهنأ بزواج يتم رغما عن انفه؟ أواهمة أنت، أم توهمين نفسك؟". عليه أن يثنيها عما يدور برأسها ويبدو أنه استحوذ في لحظة يأس وفي محاولة للدفاع عن حبها له.
"كل ما سأقوله لا أقصد منه تشويه صورته أمامك، ولا أقصد تحريضك عليه. لا أعرف ما هي صورة والدك في ذهنك أو بقية أفراد عائلتك. لكن ما عرفته عنه أظن أنكم لم تسمعوه ممن ينافقونكم لسبب أو آخر." قرر أن يحاول جاهدا سد أي فسحة يريد غضبه أن ينفذ من خلالها باستخدام عبارات تهين الرجل.
"والدك لا يملك من المقومات إلا الثروة. وصاحبها يظن أن الجميع يطمعون بها حتى أقرب الناس له، لذا يبحث عن حماة مأجورين. في ظل النظام السابق لجأ لتوابع السلطة، أطعمهم جزءا محسوبا بدقة من أرباحه. في هذا العهد لجأ لقوة سياسية فاعلة هي جزء من منظومة الحكم، تملك بندقية لا تتردد بإيجارها مقابل منافع مادية."
سكت برهة تاركا لها المجال لاستيعاب، ربما، ما لم تعرفه: "لن يتوانى حتى عن قتلي. هنا، يجب أن تستوعبي ما سأقوله جيدا. طاغية كبير سلب مني والدي، وسلب من أمي زوجها. ولن أمنح الفرصة لطاغية صغير أن يسلبني من أبني وزوجتي. لا أملك من القوة ما يؤهلني من الدفاع عن نفسي، ولا أملك من الثروة ما أستطيع أن استأجر به عصابة لحمايتي."
"هل يعني هذا أنك ستتخلى عني؟"
"أليس هذا أفضل من أكون سببا في ترملك؟ لن تكون هذه آخر قصة حب بنهاية غير سعيدة."
"لن أغفر له." قالتها وهي بالكاد تحبس دمعها.
"صدقيني، لن تكوني الوحيدة التي لن تغفر له. ربما لن تكوني الأكثر ضررا منه. ربك، وحده، يعلم كم ظلم."
افترقا. فضّل أن يسير على قدميه، أو بالأحرى كان ملزما كي يعطي عقله فسحة زمنية كي يستعيد ما جرى منذ البداية، ولعله يصل لإجابة مقنعة لسؤاله: "لم أخفت عنه أنها من عائلة ثرية؟"
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- ● إحباط
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
في العدد نفسه
■ كلمة العدد الفصلي 14: حتى لا تتكرر خيبة الأمل
■ لم يعد ثـمّة عطر إلا في القوارير
■ غياب
■ صباح