عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غادة المعايطة - الأردن

رحـلـتـي فــي يــوم


لن أطيل عليكم، فقصتي طويلة جدا، ممتعة في أجزاء، وباعثة على الملل في أجزاء أخرى. اتفقنا إذا وكما هو واضح في العنوان أني سأحكي مشواري في اليوم الأخير، الذي بدأ صباح يوم بارد من أيام تشرين الثاني على الشارة الضوئية قرب تقاطعات مسجد الجامعة.

انتقلت بسرعة انتقال الأحمر والأزرق والأخضر من حقيبة الصبية الصيدلانية إلى يد بائع الصحف المرابط هناك منذ عقد أو أكثر، الذي يعيل أسرة مكونة من سبعة أطفال ووالدة مصابة بهشاشة العظام.

كان من المفروض أن أكون ثمنا لصحيفة الصباح ولكن الصبية الكريمة نقدتني للبائع الذي أسرع وناولها الصحيفة:

"بلاش الجريدة عمو"، قالتها بصوت ناعم.

فتحت الإشارة الخضراء، وسمعت: "الله يوفقك. الله يستر عليك. الله..." ولم أتمكن من سماع الباقي لأني حشرت بسرعة في جيب معطف شتوي مهترئ، وانضممت إلى حفنة من القروش والعملات والأوراق النقدية. لم أتمكن من إحصاء المبلغ من باب: خليها عالبركة.

شعرت بالدوار وأنا انتقل بين السيارات والمركبات والقفز السريع إلى الرصيف مخافة أن ترتطم إحدى هذه السيارات بمالكي الجديد: بائع الصحف، الذي دعوت له من كل قلبي أن يكون رزقه، في هذا اليوم البارد، الأوفر. وكأن الله مقسم الأرزاق سمع دعائي، إذ هبطت عليّ من باب الجيب ورقة نقدية بقيمة خمسين دينارا. وسمعت:

"الله أكبر. الله أكبر. والله الدنيا بألف خير، والله الدنيا بألف خير..."

وكالعادة لم أسمع الباقي بسبب بوق حافلة مدرسة من الواضح أن سائقها تأخر على رامي أو أيمن أو ياسمين. الله أعلم.

مع صوت أذان الظهر فرغت الصحف، واستقل مالكي الجديد إحدى مركبات النقل العام العاملة على الخط. لا أدري لماذا انتقلت بسرعة إلى جيب كونترول الباص على الرغم من وجود الكثير من (الفكة) في جيب بائع الصحف: (ماله وهو حر فيه).

توقفت الحافلة في عدة محطات.

"يا إخوان، مين نازل عند مكدونالدز؟ مفيش. امشي يابا." قالها الكنترول للسائق الذي تابع طريقه عبر زحمة شارع الجامعة.

"مركز الأمل للسرطان يا ابني. الله يرضى عليك." همس صوت ضعيف من آخر مقعد، وهبطت سيدة مسنة وهي تتكئ على راكبي الحافلة.

"انزلي يا حجة، انزلي. مفيش معك ناس؟"

من الواضح أن (الحجة) لم تسمع، لأنها واصلت الهبوط.

"امشي يابا. الله أكبر، مفيش معها ناس. معقول مالهاش أهل! قرايب! الله يكون في عونها. امشي يابا، ووكلها لله."

حشرت في جيب الكنترول بين علبة السجائر والقطع النقدية. إلا أن يد الكنترول امتدت وانتزعت العلبة. تبعها السؤال المعتاد:

"مين معو ولعة؟"

أي ولعة يا عزيزي الكنترول؟ الحافلة مطرزة بلوائح: ممنوع التدخين، صحتك بالدنيا، التدخين ضار... إلى آخره.

لن أطيل عليكم، إذ تبع المشهد مشادة بين الكنترول وراكب من الواضح أنه طالب في كلية الطب (روب الطبيب). انتهى الأمر بنزول الطالب، غاضبا ومحتجا. وطلب الكنترول ولعة ثانية للسيجارة الثانية."

شعرت بقفزة الكنترول السريعة إلى الكشك الصغير ومبادلتي بعلبة سجائر من النوع الذي يتناسب ودخله المتواضع، ووعيه الصحي الأكثر تواضعا. تم إلقائي بصورة سريعة ودون طي في درج سري أسفل صندوق حلويات داخل الكشك، واختلطت علي روائح السلع الغذائية الرخيصة من شطائر (بايتة)، ومكسرات سكنها العفن، وسكاكر انتهت مدة صلاحيتها مع كارثة شيرنوبل.

انتهت معاناتي عندما أصبحت جزءا من إتعاب زيارة الطبيب الخاص الذي دفعه مالك الكشك للكشف عن ابنه طالب الصف السادس الذي تناول (ساندويشة شاورما) ملوثه بجراثيم الكون. وكما تدين تدان.

بعد صلاة المغرب عاد الطبيب إلى المنزل واستقبلته صغرى البنات، نور:

"بابا حصلت على المرتبة الأولى في الصف."

تبع ذلك قبل وتهاني وأماني. ومع أربعة دنانير أخرى، أضافتني نور إلى حصالتها الوردية.

النتيجة: تفاؤل باسم نور، وأن يكون مروري دوما بين أياد نظيفة تتقي الله، وعندها نسود الأرض، (على اعتبار أني دينار عربي. وسلامتكم).

= = =

الكونترول: شخص يساعد سائق الحافلة، ويتولى جمع الأجرة، والإعلان عن المحطة القادمة لوقوف الحافلة. تعريب للكلمة الإنجليزية (control)، التي تعني التحكم أو السيطرة.

قطع العملة الأردنية الورقية: دينار (أخضر). خمسة دنانير (أحمر). عشرة دنانير (أزرق). خمسون دينارا (بني).

مسار الرحلة في القصة أعلاه على طريق يمر أمام الجامعة الأردنية في عمان، التي يوجد قربها مستشفى الأمل المتخصص بمعالجة السرطان، ويوجد مقابلها أكشاك ومطاعم، كمطعم الوجبات السريعة، مكدونالدز.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2008     A غادة المعايطة     C 0 تعليقات