عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد زين الشحاذة - سورية

طعم الطلقة


قبعتُ في غرفتي منكمشا على نفسي، تكوّرتُ على ذاتي منطويا بين الخجل والخوف، أرسم المشهد، أعود لأضيف عليه أبعادا جديدة بمقدار ما كانت مخاوفي تكبر أسجّل حوارات سيلقيها أبي في وجهي، تتلوها شتائم وسباب، يكبر المشهد، يتبلور وكأنّه جزء من الارتهان الذي أسومه على نفسي كطريقة طالما مارستها في تعذيب الذات حتى أكاد لا أفصل أحيانا بين المشهد والواقع، فمنذ أن عاد أبي من العمل وأنا انتظرُ أن يدخل إليّ، ليركل الباب بقدمه فيجلجلُ البيت مرتعدا ومرتدا من هول الصدمة، ثم سيأخذني بيسراه، ويضربني بيمناه، يتلقفني الحائطُ وقد تشذرتُ وترذّذ دمي على الجدار والثياب، أتصورُه سيعاودُ ركلي ليطفئ نار قلبه أنّى تيسر له ذلك.

في هذه الزاوية، هنا تماما، حيث أجلس قبل أن تطالني ركلاته المنتظرة المتخيلة لتلقيني إلى الجهة الأخرى سيجلس، يشعل لفافة تبغ ويعبُّ منها نفسا عميقا يزيد من لهاثه وسعاله، سيرمقني بنظرات حادة يكون وقعها كما العادة كوقع النبال على جسدي المتهالك.

أؤكدُ لكم أنّي لن أشعر بألم ذي بال عندها، لأنّ خجلي من والدي سيفوق كثيرا الألم الحسيّ الذي سأعانيه.

لم تسعفني كلُّ الأشياء التي تشاغلتُ بها، لأكسر ظهر الوقت الذي تكلكل فوقي ثقيلا. وشبحُ الكابوس ما زال يجثمُ عليّ بتصوراته التي لا تنتهي كشريط صور بين بكرتي خوفي وخجلي ذهابا وإيابا، حتى إذا طُرق الباب. آسف يجب أن أكون دقيقا كيلا أرعبكم: أعني باب الدار، أحسستُ بأنّ الطرق تغلغل كنصل منشار ثلم بين عظامي، ليشق القلب كتفاحة آتت أوكلها.

حاولتُ أن استجمع نفسي وشتاتي لأنهض. لمْ اقو على ذلك، تجاهلتُ نداءات والدي ووالدتي، بصراحة وببساطة لأن قواي قد خارتْ كليا مع أول طرقة على الباب، أحسستُ بأوجاع الباب تدبُّ بجسدي وأناتُ مفاصله تجتاح مفاصلي لتترك فيها ألما يبعثُ شعورا غريبا ونشوة لذيذة.

ران صمت ثقيل على كاهل اللحظة التي دلف بها جارنا إلى صحن الدار، لم أستطع ردّ هذا الصمت إلى أسباب محددة، أيّة أسباب أخفف بها وطأة هذا الشعور القاتل، المشوب بمرارة انتظار خلاص من الهاوية إلى الهاوية. حاولت أن أردّ ذلك الصمت إلى طبيعة والدي الذي لا يجيد الحديث كثيرا في الثرثرات الجانبيّة، وعزوته بعد ذلك إلى فجاءة الزيارة التي باغتته.

غير أن أيّا من ذلك لم يرسل الطمأنينة إلى قلبي فقد كسرا كاهل الصمتُ المطبق بحديث عارض، مرّتْ كلماتُ الترحيب والمواضيع الجانبية مسرعة وقد تناولتْ السؤال عن الصحة وانتهتْ بالحديث عن الطقس ثم تلاشى الصوتُ رويدا، رويدا حتّى مزّقهُ سكون مريب، حدستُ أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة إذ تعالى صوتُهما فأوجستُ أنّي أستقرئُ ما يقولان، كأنّي أجلسُ بينهما، أنفي وأوافقُ وأهزُّ رأسي كأنّهما يرياني أو يجالساني.

دوى صوتُ أبي محمود عاليا فارتعدتُ، أحسستُ صراخه طنينا مزعجا في أذني لكأنّه قد صرخ في صوانها بملء فيه. ران صمت ثقيل شعرتُ بعده أنّي أتشذرُ وتنحلُ نسائلُ روحي منفرطة من عقدها متلاشية عن محورها لمْ يكدْ يجمعُ شتاتها غير صرخة أبي التي توقعتُ أنْ يتبعها نداؤُهُ عليّ لأردّ أقوال جارنا عليه، ليسقط الأمرُ بين يديه.

لقد كانتْ لحظة عصيبة. سأكونُ أمام خيارين عسيرين، إمّا أنْ أدخل لأدحض ما قاله الجارُ وأنصر أبي نصرا مؤزّرا، وأنهارُ من الداخل لأني أعرفُ ما لا يعرفُه أبي، وإما أن اعترف أمامهما بما فعلتْ يداي، فتسقطُهُ الفجاءةُ بين يدي العجز والصدمة مشدوها، ولا أدري ما ستؤول إليه الأمورُ.

كان الخيارُ صعبا، أمران أحلاهما موت، عرفتُ أنْ العاصفة قد هدأت قليلا، ربما كان دخولُ والدتي وهي تحملُ الشاي ما دفعهما للصمت لكنّ ذلك استمرّ قليلا رغم عودتها إلى المطبخ مسرعة والطامة الكبرى أنها أغلقت الباب وراءها.

بدا هذا الهدوءُ يغذي هواجسي ومخاوفي فما يزال الكابوسُ يجثمُ على صدري، تمنيتُ للحظات أن يصرخ أبي أن يُهرع إلي مسرعا ليتناوب وجهي وبطني وظهري ركلا، وضربا ليبرحني، لعليّ سأرتاحُ بعدها من هذا العذاب النفسي الذي لم يغادرْ خلية مني.

جلّ ما كان يزعجني أني سوف أقفُ بين يديه مذموما محسورا لا حول ولا قوة، ولا وسيلة أدفع بها خجلي وخوفي، ماذا سينفعُ ما سأقولُ إن تكسّر ما بيننا تكسّر الزجاج، فلا يعاد له سبك إلا بالنار؟ النارُ التي تنهشُ أحشائي تبقرني من الداخل كوحش أسطوري.

في اللحظات التالية خُيّل إليّ أن الضرب والركل لنْ يجدا سبيلا إلى سيالاتي العصبية، ولرّبما سيكونُ الألمُ مضاعفا ولنْ يحتاج والدي لأنْ يضربني لأن إشارة من سّبابته أو ضربة بخنصره ستجعلني في عوالم أخرى أسبحُ في سيالات عصبية تتناقل شتى أنواع نبضات الألم في جسد مُتهالك بذاته وعلى ذاته.

أمن العدالة أن أدفع من روحي كل هذا العذاب ثمنا لجريرة صغيرة ارتكبتها؟ يفعل أقراني ما هو أفدح منها وأعظم في كل يوم، ثم أليس أبي شريكا بما اقترفت يداي من الإثم لأنّه كان يدفعني إلى ذلك عبر لومي وتقريعي بأني لا أشبه أقراني في كثير من الأمور، بلى لقد كان المحرض لما أقدمت عليه اليوم عندما تتبعت عائشة ابنة أبي محمود وهي تخرج من المدرسة، ولو أنه رأى تلك القامة الهيفاء التي تختال بكبرياء وشموخ لالتمس لي الأعذار.

التقت عينانا في لحظة توقفت فيها عقارب ساعات العالم، لوهلة أحسست بأن العالم كله ملك يميني، ذلك الوجه الأبيض المدور كقرص شمس اختصر الأنوثة كلها في ابتسامة خفر عذب أضفت على الوجه بريقا لا ينسى، سحنة ليس تملك النساء شبيها لها، عندما تدفق الدم إلى الوجه الأبيض ليحيله إلى لون زهري كبتلات ورد جوريّ تفتّح للتو، وقد تقاطرت عليه حبّات النّدى لتزيده ألقا ولمعانا. وفي منتصف الخدّين ارتسمت دائرتان صغيرتان من حمرة قانئة، تتوسطهما غمازتان ناعمتان لتبدو كل واحدة كبرعم ورد خجل يهم بالتفتّح ولا يقوى.

أحسست بأوجاع العالم كلها تنفى إلى جسدي المتهالك. وبخدر يسكن أطرافي وأحشائي بشعور يشلّ كياني، تجمّد الدم في عروقي وقد تصعد كله إلى قمة رأسي سمعت دقات قلبي بجلاء كأنّ طبولا كبيرة تدفع أشباحا بدقاتها، وحين يعييها الأمر تزيد وقع ضرباتها.

هي لحظة انسقت إليها أو ساقتني الأقدار إليها لأعيش تفاصيلها بكل جمالها وفرادتها ولأدفع وحدي من كل خلية ثمنا لها.

هل كان على عائشة أن تشاركني في ذلك كما كانت شريكي في عذوبتها؟ غير أني لم أستطع أن أجزم ذلك لأنّي الآن ومنذ أن دخل والدها أدركت أنها ما كانت تعيش اللحظة كما عشتها، وإلا لما كان الآن هنا يشكوني لوالدي.

لو أنها اكتفت بتأنيبي، نظرة واحدة من عينيها اللوزيتين كافية للجمي، لدفعي إلى مجاهيل الصمت والعجز زيادة على ما كنت فيه، لكني أذكر تماما ابتسامتها الرقيقة، حين أفتر ثغرها عن ضواحكها الناعمة الصغيرة لما استدارت نحوي ولوت جيدها، كانت ابتسامتها إيذانا بالرضا، رسول قبول نزع ركام الخوف والارتباك عن كاهلي، أدركت في تلك اللحظة الفردوسية أن حوريتي تعلن عليّ الحب وتدعوني بصمت ملائكي أن أقدم، أن استفيض، ففاضت كل جداول العشق رقراقة تعلن ربيع عواطفها وإن ظل الكلام عصيا على القلب فنابت عن غيبة المفردات عيوني التي حملتها ما كان في القلب من المشاعر.

ظلت النظرات على مدى أكثر من لقاء رسولي إليها مذ أعلنت عصيانها الكلمات وكانت عائشة تمارس ذات الصمت وتبتسم حتى لقائنا الأخير ظهيرة هذا اليوم عندما انفرجت عقدة لساني عن كلمة حبيسة واحدة: "أحبّك." اختفت كل الحروف فجأة. تلاشت مفردات العالم أجمع عندما أحمر وجهها مستديرة إلى الجهة الأخرى صاعرة خدها عني ثم اختفت رويدا، رويدا.

تنفست الصعداء لحظتها ليس لأني كسرت ظهر صمتي وعجزي الذي كان يقلقني وكنت أخشى أن يطول لأفاجأ ذات يوم أن عائشة قد تركتني عندما استشعرت عجزي وخوفي ومالت لغيري لأنّ ذلك سيكون نهايتي الحتمية من دون ريب. لكني سعدت أكثر بذلك الومض الذي أشرق من عينيها في تلك اللحظة. كانت سعادة قصوى شعرت بها، لكنّها كما يبدو مجرّد إحساس مراوغ وإلا لما كان جارنا الآن في بيتنا.

تركني هذا الهدوءُ في محور دوّامة مجنونة الدوران لم يوقفْها إلا صراخُ أبي وقهقهته المتعالية حتى أقصى مدى حنجرته. حدستُ من خلالها أنْ جارنا قد غادر منذُ لحظات دون أنْ انتبه. يبدو أننّي أفقد الكثير من قواي النفسية تحت وطأة الألم الروحي النفسي. كنتُ أمام مواجهة عسيرة لنْ يطول انتظارُها، لأنّي اسمعْ الآن طقطقة أصابع يديه، أو هكذا خيل إليّ وهو لا يفعلُ ذلك إلا في حالات الفرح الشديد أو ... لا أستطيع أن أقول. تبعثُ فيّ تلك الطقطقةُ رغبة بالتقيؤ تلاشتْ فورا عندما صرخ:

"أمّ أحمد، البندقية. البندقية، يا أم أحمد."

وقعت تلك الكلمةُ كجبل حطّ من عل ليجثم فوق صدري: البندقيةُ. كلّ شيء تصورته إلا أن يخرج الموتُ إليّ هكذا، من فوهة صغيرة، سوداء، ستلتمعُ. ستومضُ، فجأة، فأرتدُ إلى الحائط. ستخترقُ صدري تلك الكرةُ المدببةُ، اللاهبةُ كقطعة من حمم بركان ثائر، ستشوي أجزاء من جسدي فتنبعثُ رائحةُ الشواء محمّلة بطعم الموت المحتّم. سأحدّقُ في الأشياء لأخر مرّة. سأحاولُ أنْ أقول كلّ ما لديّ، سأعجزُ عن إتيان ذلك، ولو حاولتُ مرارا. الوقتُ سيدخلني في متاهة بين أن أفسّر لوالدي، وأن استسمح أمي، أنْ أُقبل يديّها، أن اطلب رضاها، أن أتصالح مع الله وذاتي، أن أحاول تبرير موقفي، أنْ أحاول التمسك بالحياة. سيداهمني الوقتُ ستتوسعُ عيناي وتضيقُ الرؤيةُ مهما حدقتُ.

مجرّدُ نزوة. سأموتُ بجريرة نزوة صغيرة، نزوتي الأولى ستكونُ الأخيرة، لا، لا ليست كذلك، لقد كانت حالة حب لا تكرر، محال أن تتكرر لكني مستعدّ أن أدفع روحي ثمنا لتلك اللحظة التي عشتها بكل قدسيتها وعذوبتها. ليت الزمن يعود إلى الوراء قليلا لأعيشها مرات، ومرات قبل أن أدرك هذا المصير. لا، لا لن أعود لمثلها لو عاد الزمن، الحياة ليست لعبة، المواجهة صعبة أمام ندّ لا يرحم، كرة صغيرة، أصغر من بؤبؤ العين، لكنها لا ترحم. لا تعرف الحب. ستخترقني وسيبقى ذلك الشعورُ يتنامى مع رائحة الشواء ورجع الارتداد ووجعه، ألمُ الصدر، وضيقُ التنفس، ستضيقُ الدنيا، ستغيمُ، تتماهى الأشياءُ ضبابية يزدادُ ضبابهُا عندما سأحشرج بتلك الشخرة الأخيرة. حسبتُ حساب كلّ شيء إلا أنْ يحدث هذا، أنْ تكون البندقيةُ خصمي وحكمي.

فجأة دوّتْ طلقة. تحجرتُ. قهقه والدي. أطلق طلقة ثانية تبعتها قهْقهته.

كانت الغرفة تهتزُّ مع كل طلقة وتسري في أوصالي رعدة، أتحسس جسدي مع كل طلقة. انتظر سيلان الدم الحار الذي سينزفه صدري، وكأن الطلقات كانت تخترق قلبي مارقة نحو الجهة الأخرى مخلفة فجوة كبيرة. ظلّ أبي يقهقه ويطلقُ العيارات ثم توقف فجأة. سمعت وقع خطواته الثقيلة تقترب نحو غرفتي لتعلن ساعة الصفر، لتضع حدا لحياتي.

دارت الغرفة في هالة فضاء محموم عندما دفع الباب بهدوء لم أتوقعه، انتفضت مقاوما رغبة جسدي بالسقوط وتعاليت على عجزي ووهني ووقفت ليس لأني أردت أن أموت واقفا إنّما لاستنجد بساقي إذا طاوعتني الفرصة بفرار يلقيني خارج دوّامة الموت إذا أتيحت لي فرصة بالفرار.

كانت معالم وجهه متصلبة وقاسية لكنها تقاوم ابتسامة مكتومة لم أعرف كنهها، حنقت عليها وعلى والدي الذي كرهته من أعماقي لأنه قابلني بتلك الابتسامة الحبيسة خلف ملامحه القاسية وكأنه يمارس بقتلي سادية طالما قاومها، ولو أنه أظهر بعض الأسى لخفف ذلك عليّ بعض الهوان ومرارة غصة الموت المحدق بي من كل الجهات.

خطى خطوتين حتى صار قبالتي، فأدركت سوء العاقبة. عندما ترقرقت دمعتان في طرفي عينيه فانحنى، تنحى جانبا ليداري دمعه عني. وضع يده على كتفي، ارتعدت أوصالي، وقال بصوت خفيض:

"أخيرا وقبل أن أموت سأعود إلى دار جدك يا أحمد. لقد وافق أبو محمود على بيع الدار لنا. سنعود إليها يا بني. دار جدك التي باعها منذ ثلاثين سنة."

اغرورقت عيناه. اختفى صوته في نحيب جهد في كتمه، وهو يعود أدراجه نحو صحن الدار والبندقية تمزق الصمت بصوتها وصداها.

وأنا ما أزال منكمشا على نفسي متكورا على ذاتي.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2008     A محمد زين الشحاذة     C 0 تعليقات