علي الخرشه - الأردن
حـنـان
دارة المشرق - الأردن: مسابقة 2008
:: عود الند تبارك لعلي الخرشه فوزه في مسابقة دارة المشرق 2008 ::
صنع الزجاج بيننا حاجزا ما ترك لنا سوى التخاطب بالعيون. قلت لها:
"سأشتاقك حتى غد."
وقالت لي: "سأراك غدا."
وابتعدت حافلتها، وبقيت في حافلتي تحاصرني النظرات الغاضبة، وتحيرني الوجوه الخائفة.
كل ما أعرفه أنني أشاركهم تعبهم بعد هذا اليوم الحافل بالدراسة. تظل تلك المعلومات المتراكمة والتي تعطى لنا على شكل محاضرات تدور في رأسي وتجعلني مشوشا لا أعي ما أقول، وتجعلني أهرب من تلك الوجوه لأتأمل مباني قسنطينة القديمة وجسر سيدي مسيد الشاهق. ما أعجبه! وما أشد صبره! بالكاد حباله تتعلق بالطودين، ويحمل طول هذه السنين أناسا وسيارات. كنت أنا وحنان من هؤلاء الناس. وقلت لها مازحا:
"ماذا لو قفزت من هنا؟"
أجابتني بعفويتها المطلقة: "نطيش روحي وراك."
جميلة حنان، لا أعرف كيف تفكر. أخبرتني أنها كانت تحب أن تصبح طيارة وتظل فوق الغيوم محلقة. وعندما قلت لها:
"وماذا تفعلين على الأرض بين مختبرات الصيدلة؟"
قالت لي: "هل يطير الطير بلا جناحين؟ أنا قصوا أجنحتي وأبقوا لي أحلاما بلا أجنحة."
وأخبرتني أيضا أنها تحب السفر، ولم أعرف أنها غادرت يوما قسنطينة. أحلامها صغيرة والطريق إلى السكن الجامعي جد طويل، والحافلة التي تقلنا مهترئة ومع هذا الطريق المزدحم لن نصل حتى الغد.
أخذت بدافع قتل الوقت أتأمل الوجوه المحيطة بي. ذاك، بما تراه يفكر؟ بالدراسة؟ بالأهل؟ بالأكل؟ أم بفتاة أحلامه؟ وذاك الذي يرتدي زي برشلونا يضحك ويصمت وينظر. والسائق الذي انعكست صورته في مستطيل المرآة: خطوط تعلو جبهته. تتحرك وتموج الطريق، وتعب تحكي عيناه، وخوف لا مبرر له، وفتاتان دخيلتان على هذا المجتمع الذكوري تتهامسان وتثيران قلق الشاب الذي يرتدي الأصفر وبالكاد يثبت نفسه كلما مالت الحافلة، وصديقه المنشغل عنه بسماع أغنية على هاتفه النقال، وأولئك الذين راحوا يناقشون مسألة طبية طرحت في امتحانهم.
وحده يظل محتفظا بذلك الصمت المخيف. جثته الضخمة وشعره الطويل ولحيته الكثيفة تجعلك تفكر أن عمر بن الخطاب يمكن أن ينظر من عينيه. يمكن أن يتجسد بحماسه وغيرته على الإسلام. بقيت أتأمله لعلي أفسر ما نوعه من الرجال. وعندما بدأت أقرأه باغتني بنظرة فاجأتني، أشحت ببصري عنه، وإذا بصوت عال كالرعد يدوي، يتبعه صرير كوابح.
لم أتمالك نفسي وقتها فاندفعت إلى مقدمة الحافلة، ثم ما لبثت أن رجعت إلى الخلف مصطدما بعارضة حديدية، ثم وجدتني مدفونا بكومة من الأجساد المتعرقة والهواء بالكاد يجد طريقه إليّ. توقفت الحافلة وتوقف الزمن، وساد صمت تبعه صراخ وعلامات استفهام:
"ماذا حدث؟ ما هذا الصوت المخيف؟"
تعالت التساؤلات وخرج من بينها جملة خبرية بالكاد تسمع: "حادث."
رفعت رأسي وتخلصت من آخر جسد كان ما زال فوقي، ورحت ببصري أتحقق من الخبر. لم يحدث شيء، أين الحادث؟
وقتها لم يجبني أحد، لكن الجموع المندفعة بالخارج كالفراش المبثوث صرخت بأن شيئا غير اعتيادي يحدث، فهناك طلاب الحافلة الأخرى يتراكضون وطلاب حافلتنا أيضا لحقوا بهم، وتركوني وحدي كالمبنى المهجور.
ألتفت حيث كان يجلس "عمر بن الخطاب". لم أجده. وبدافع الفضول قفزت من الحافلة، وكمن ترشقه ببرميل ماء وجدتني مندهشا أراقب الناس يعودون هلعين صارخين بصوت مخيف، وكأن وجوههم الفزعة قد توحدت بوجه طفل يركض إليّ وقد اختلطت الدموع بملامح وجهه حتى لم يبق منه إلا فم فاغر تخاف أن يبتلعك.
كنت لا أعرف ما الذي يحدث، ولكن هناك كارثة على وشك أن أقع على تفاصيلها: هل قامت الساعة؟
رحت أيضا أركض مع أولئك الذين ما زالوا يركضون وقشعريرة تعلو جسدي، تتسع كلما تقدمت. وأخيرا كان هناك عامود من الدخان. تساءلت: "ماذا حدث؟" لم يجبني سوى الدخان الذي تمادى في الارتفاع.
لابد أن أقترب. وكهرباء تنفض جسمي. خفت أن أتحول إلى عاصفة رعدية من الفضول. اقتربت بقلقي وشحناتي واندمجت مع الدخان، وصعدت هناك حين ألقيت تلك النظرة التي أوقفت الزمن، وحولتني إلى تمثال من الدهشة. المنظر من هنا يشبه أفلام هولي وود. هل يحدث هذا حقا أمامي؟ تلك حافلة ابتلعتها ألسنة غاضبة من نار، وعبثا يحاولون ترويضها.
كانت سيارات الإسعاف قد وصلت الموقع، وبدأت تنقل من وجدته على قيد الحياة. وأنا شرعت أتعرف على هوية الحافلة المدمرة، لعلي اعرف إي مدينة في قسنطينة ستلبس ملاءتها السوداء، وتبذل ما لديها من دمع على نكسة سيكتبها التاريخ بالدم على جلود أنضجتها النار، حتى لفتني عمر بن الخطاب مع أولئك الذين راحوا يساعدون في إخماد النار، رأيته يهاجم ذلك الوحش من اللهب بلحية وثوب وبرميل ماء، وكأن أُحدا قد ناداه. وإذا بي أصبح إلى جواره أراقب ذلك المارد من أرض المعركة.
كنت معه في نفس الخندق وعيناي لا تتركان صفحة وجهه الذي تلطخ بالدخان: ألتلك المواقف خلق هؤلاء الرجال؟ رحت وبسرعة اترك تأمله وأنصرف إلى تهجئة تلك اللوحة التي غطتها ألسنة النار: "نقل الطلبة. نحاس نبيل."
مرة أخرى توقف الزمن، ووضعت يدي على وجهي كمن يحاول أن يستيقظ من حلم. وأعدت قراءة اللوحة تلك وبدهشة أكبر. يا إله السماوات، حنان كانت تركب هذه الحافلة. وبلغة جديدة لفظت اسمها، ورحت اركض إلى مسرح الجثث التي لفت بالبياض. كلها متشابهة. وحدي أقف بينها مرددا تلك العبارة: "يا رب نجها."
كانت الوجوه مغطاة. لا بد أن أبرئ الموت منك يا حنان. لا بد أن تكوني مع الثلة التي نقلوها إلى المشفى. ولكن كيف سأفعل؟ سأبدأ من هنا. رفعت تلك القماشة البيضاء فاصطدمت مع الموت لأول مرة. كان صامتا بهيبة من يردعك عن الاقتراب. كان وجها لعملة أخرى وجهها الأول الحياة.
لم أستطع أن أتابع التفتيش بين صور اختارها الموت ليصنع ألبومه الجديد، ألبوما يضع فيه صورا لحسناوات كليتنا بشعورهن الطويلة المتناثرة على أكتافهن، وبعيون مغمضة تصور الموت أن بقاءها مغمضة هو الأفضل.
وبتفكير من يحمل الألم والأمل معا، أخرجت هاتفي ورحت أفتش بين الأحياء عن حنان، وضغطت الزر الأخضر: هل كان ذلك الزر الحد الفاصل بين الحياة والموت؟
ورحت بين المسافات الفاصلة بين رنة وأخرى ألهث وراء كلمة "ألو،" إلى أن سقطت على وجهي تلفحني تلك الأغنية، مسددة رصاصة الرحمة على رأسي: "يسمعني حين يراقصني..." كانت نغمتها، وكانت فيما مضى إعلانا عن بدء حب بيني وبينها، واليوم اتخذت شكلا آخر: كانت تنعاني وتنعى آخر أمل تعلقت به.
علا صوت الأغنية من بين الجثث، فرحت أتبع الصوت حتى أوصلني إليها. رفعت الغطاء عن وجهها. كانت نائمة لا تتكلم. التقطتها وطوقتها بذراعي فسقطت كورقة خريف في حضني. ناديتها بغصة هذا الوطن النازف، وبكيتها كبكاء أبناء العراق، ورحت الثم شعرها ودموعي تغسل وجها.
"حنان يا أميرتي لا تتركيني. تنفسي أرجوك."
ورحت بمحاولات يائسة أعيد إليها النفس. لكنها رحلت.
لم اعرف أن للحزن وخزة كوخزة السيف في القلب. لم أعرف أن الدموع التي تسقط تحرق العين وتحفر الخد. لم اعرف أن للموت هذه الابتسامة الصفراء، يتربص بك ويقطف الزهر من حولك، ويلون السماء لك بلون رمادي عجيب. يضحك وهو يخطف صورة من أحببت من قلبك، ويضعها في ألبومه، ويغمزك بأن دورك لم يحن بعد. اضحك يا رجل، فالموت يمازحك.
***
قرأت نفس الخبر للمرة السابعة من الجريدة نفسها وبتواريخ مختلفة:
"عمل إرهابي جديد يخطف من قسنطينة ثلاث عشرة عروسا. سيارة مفخخة اصطدمت في حافلة نقل الطلبة بطريقة تكتيكية. قُــيّـد الحادث ضد مجهول."
وحدي من كنت مجهول الهوية في هذه المدينة. كنت سابقا مغتربا عن وطني، واليوم أصبحت مغتربا عن نفسي. ماتت حنان. البسوها ثوب فرح أبيض، وزفوها إلى لحد معتم اختفت في حضنه، وأنا العاشق المخدوع بقيت ارسم قلوبا على السحب، وأعشق في زمن لم يعد هناك أحد يعشق أحد، في زمن أصبح فيه اغتيال النساء بطولة وطنية، واستنزاف الدموع برهان على الإخلاص، في زمن حكم على الحب بالموت ضربا بالرصاص.
كانت حنان حربي العاطفية الثانية بعد أن خرجت من حربي العاطفية الأولى مثقلا بالجراح. التقيتها في زمن المقابر العاطفية، في زمن تحولت القبلة إلى سلاح نووي محرم دوليا. كانت وطني بعد أن جردوني من وطني. كانت حبيبتي وأمي. كان كحلها قهوتي، وشفتاها جريدتي، ووجهها هويتي. كانت تلميذتي التي اعلمها نفسي، ومعلمتي التي علمتني الحب.
قتلوك يا صغيرتي. كتب في الجريدة أن موتك كان ثورة شعبية، أن رحيلك كان انتصارا قوميا، عرقيا، طائفيا.
أصبحت الآن قاربا بلا ربان، أهيم في شوارع قسنطينة، ابحث عن شط لحطامي، مرسى لشراعي المنهار، ابحث عن جزر بلا أخبار، بلا جرائد بلا سيارات. تزعجني السيارات. أخال صوتها يعترف بقتل حبيبتي. أتفحص وجوه المارة: ربما هذا هو المجرم، وربما ذاك، وربما قسنطينة هي المجرمة. ربما وأدت بناتها الثلاث عشرة. وربما كان "عمر بن الخطاب" المجرم. أترى الرماد الذي كان على لحيته هو حقا رماد معركة أحد؟ أم كان التراب الذي علق في لحيته وهو يحفر لوأد ابنته؟
لم اعد اعرف ما تعني الوجوه. وحدها الأماكن كانت تشهد على فظاعة جرمهم. رحت اركض. رحت ابكي على الأطلال. كلما مررت بحجر وطئته، كلما اصطدمت بمقهى احتلته ضحكتها، كلما صعدت شارع صعدت عليه تنهيدتها.
أوصلتني قدماي أخيرا إلى كليتنا هناك حيث التقينا. كان باب الكلية قد تحول إلى بوابة لقلعة من الأحزان، ولجته فوجدت الألوان باهتة، والورود لا لون لها، كلها تحولت إكليلا على قبرها، والعصافير تردد لحنا يتيما.
اتجهت حيث اللقاء الأول. كانت شجرة التوت تبكي بصمت مخيف، والمقعد الذي كان بداية حبنا يئن ولا يكف عن الأنين. وتلك المكتبة لم تعد مكتبة: صارت ديوان شعر كله رثاء. يرثيني ويرثي العرائس الثلاث عشرة في ورقة معلقة على بابها. هناك كانوا يعلنون نتائجها، وهناك كانت تحقق انتصاراتها.
كنت دائما أتطلع شوقا لقراءة اسمها الذي كتب بأحرف فرنسية تتبعه بهجة الانتصار بعلامة جديدة. اليوم اقرأ في نفس المكان خبر نعيها. اليوم أتتبع الأسماء بحثا عنه لأقع عليه وقد خط بالعربية المغلظة. عجيبة هذه المدينة! تمنح الحياة لأبنائها بالفرنسية وتنعاهم بالعربية، وكأن العربية لا تختص إلا بالموت. ثلاث عشرة عروسا: علقوا مشانقهن وكرموهن على نفس اللوحة. وحبيبتي حنان أميرتهن. تتوسطهن.
ابتعدت عن اللوحة التي أصبحت جزءا من ذاكرتي، ورحت بخطى مثقلة كتمثال بلا أطراف أتابع السير على الأطلال وأنا أقاوم عبرة علقت في مقلتي، وغصة علت حنجرتي.
"أيعقل أنني في كليتي؟ أم أنا في منفى؟"
كل الوجوه حولي غريبة إلا وجه دنيا تقف هناك بلا حنان. أردت أن أسألها أين صاحبتها لولا فستانها الأسود الذي هاجمني وحبس أنفاسي.
"اصبري، أنت فقدت صاحبة. أما أنا ففقدت كل أهلي."
رحت مبتعدا عنها، وراحت عيناها تعيدان علي نفس السؤال:
"أين حنان يا علي؟"
هربت، وانتقلت إلى طريق العودة حيث صحبتني حنان ذات مرة تحت مظلتها، وأخبرتني بحلمها الصغير بعد أن سألتها بلهجتها القسنطينية:
"وين راك؟"
أجابت: "لقد ذهبت بعقلي إلى بيت صغير أمام مدفأة مهترئة يجلس أمامها رجل يشبهك. ربما يختلف عنك ببضع شيبات في مفترق رأسه، وحوله ثلاثة أولاد أو أربعة، يروي لهم بطولات صلاح الدين. فأنادي من المطبخ وبطني قد انتفخت أمامي أن الغداء جاهز."
ضحكت وقتها وقلت: "وهل الطبخ سيكون أردنيا أم جزائريا؟"
ردت بنبرة لا تخلو من المرح: "طبيخ حنان سيكون مستقلا وأعلى من تلك الحدود."
هذا هو الطريق. أمشيه الآن تحت وطأ المطر دون مظلة ودون ضحكتها الدافئة، مزفوفا لحزني. تأكلني الأمطار، فكل شيء في هذا المكان يذكرني بها، كل شيء في قسنطينة يؤرخ حبي لها. هنا ركضنا خلف أحلامنا. وهنا طرنا دون أجنحة. وهنا امسكنا بالسعادة من طرف ثوبها وركضت بنا مسرعة ولم نعلم أننا كنا نمسك بالطرف البالي. ما اشد بؤسي! ليتني لم...
وحده من سأذهب إليه الآن، وحده من يشبهني. أخذت أسير بخطى المجاهد الذي قادوه إلى منصة الإعدام ليواجه آخر بطولاته، ليقف وجها لوجه مع حبل ظنوا أنه الوسيلة للتخلص منه، وفي نظره الصراط الذي سيعبره إلى الفردوس. أصبحت فوقه الآن. أصبحت على المنصة. جسر سيدي مسيد وحده سيكون منصة إعدامي، وحباله ستكون طريقي إلى حنان.
يا أيها الجسر كم تشبهني: معلق بين جبلين تحتضنك السماء، مثلي أنا معلق بين وطنين. الفرق بيني وبينك أنهم قطعوني من الجهتين فأصبحت معلقا بلا وطن وبلا حب. اصبر قليلا. ها أنا فوق حبالك. سأقفز من درجة الصفر، وسأهبط صاعدا إلى حنان.
أغمضت عيني ثم ما لبثت أن فتحتها لأرى ذلك المبتسم الذي خطف صورة حنان مني وغمزني. أين هو الآن؟ أم تراه خائف من قدرتي على إرباكه؟ اعرف انه لا يتوقع أن يلتقط صورتي هنا، ولكني سأضحك معه.
أرخيت نفسي للريح، وتأملت وادي الرمال، وأصغيت لصوته:
"تعال. تعال."
وقبل أن اقفز وجدتني اشد بقوة للخلف كأن أحدهم يمنعني. أردت الفرار منه، لكنه جذبني حتى أسقطني على رأسي، ففتحت عيني لأرى صديقي مصطفى يصرخ في وجهي:
"استيقظ أيها الكسول."
أغمضت عيني مرة أخرى وفتحتها لأراه بصورة أوضح:
"قوم يا رجل، هسا الباص بروح علينا."
قفزت من سريري كالمجنون وأنا أهذي باسم حنان. لم يجبني مصطفى الذي راح يكمل حلاقة ذقنه.
"مصطفى: هل كنت احلم؟"
لم يجب إلا بابتسامة عرفت بعدها أنني عشت كابوسا مخيفا. رحت ارقص، لا بل رحت أتأكد هل كان حلما.
التقطت هاتفي ورحت أبحث بين الأحياء عن حنان وجدت اسمها مكتوبا بخط رفيع ترافقه صورة لوردة جورية حمراء. ومرة أخرى وقفت عند الزر الأخضر الزر الفاصل بين الموت والحياة، وبشيء من التردد ضغطته وتهت في الصحراء الفاصلة بين رنة ورنة، وكمن يجد الواحة ردت، وردت روحي لجسدي.
قالت: "بون جور. ويش راك علي؟"
وبهلع من يخاطب الأشباح/ وبفرحة من وجد شيئا قنط من عودته:
"أين أنت؟"
ردت: "في هالدنيا."
تأكدت بعدها أنها ما زالت في الدنيا، وأني أنا من كنت أغرق في أحلامي. طلبت منها أن تقابلني في الكلية. كنت أريد أن اطلب منها أيضا أن لا تلبس الأبيض، فقد أصبح نذير شؤمي، لكني اكتفيت بالخروج مسرعا للحاق بباص نقل الطلبة، وعلى ذلك المركب تأكدت من موقع الحادث أنه لا رماد ولا جثث ولا صراخ ولا غربان بيض ترقص في مكانه.
ووصل المركب بي إلى جزر أحلامي. ووقفت مرة أخرى أمام بوابة القلعة ثم اقتحمته، ورأيت الورد في كل مكان، والطير ترقص في جماعات. لكأن كليتنا في ذلك اليوم تحتفل معي بروعة الانتصار. شجرة التوت تضحك في سرها والكرسي الخشبي يصفر، وهرعا إلى المكتبة تفقدت اللوحة. كانت صامتة لا تحمل إلا اجتماعات الدكاترة والإداريين. ورأيت دنيا. كانت تخفي ابتسامة وهي تسلم علي. سألتها بلهفة وبقليل من الخوف، فبعد الأحلام تستيقظ:
"أين صاحبتك؟"
"ردت بإشارة من إصبعها: "خلفك."
رأيتها وكأني أراها لأول، مرة تلبس الأبيض، وشعرها البني الطويل يغفو على كتفيها. ابتسمت كأن الحياة تولد من جديد، واقتربت كأنها الفردوس بشجره ومائه وحوره وكل نعيمه، وبقيت حيث أنا ابكي كصغير أعادوا له أمه، فأدركت بكائي، ففتحت ذراعيها، فمشيت نحوها كطفل يتعثر بخطواته الأولى وليس يحميه من السقوط سوى الوصول إلى ذلك الحضن المشروع، وكمن يعبر جسرا عبرتها وحضنتها وسقطت في مملكتها وأسقطتها، ورحت أغسلها بدمعي والثم شعرها، وأردت أن استنشق عطرها لولا أنني اصطدمت بعطر أخر، وكأني استيقظ من نشوة خمر. نظرت فإذا أنا أرى سوادا لشعرها. رفعت بصري فتغير وجهها. انتفضت من حضنها، وجدتها حقيقة مخيفة. تحولت حنان إلى دنيا.
نظرت حولي وجدتني ما زلت أقف على جسر سيدي مسيد وتلك الغربان تنعق فوق رأسي. بكيت. صرخت. ضحكت. لم اعلم ماذا حدث.
"أين حنان؟"
بكت دنيا: "كفى يا علي. حنان ماتت. يجب أن تتقبل هذا."
قلت كالمجنون: "لا كان حلما."
قالت: "نحن لا نملك لها سوى الدعاء بأن يتقبلها الله مع الشهداء."
قلت: "كانت بين يدي. من أخذها مني؟ وكيف صرنا هنا؟
أجابت: "حين رأيتك في الكلية، بوجهك الشاحب وانفصالك التام عن الدنيا، خفت أن تؤذي نفسك، فتبعتك. وكنت هنا في الوقت المناسب، فرأيتك فوق حبال الجسر، فأوقفت جنونك بعد أن سحبتك من فم الموت."
قلت: "ولماذا فعلت ذلك؟"
ردت: "لأن حنان تحبك، وتحب أن تموت بشرف، لا منتحرا."
قلت: "وهي تراني الآن؟"
ردت: "علي، أدعو الله أن ينتقم ممن قتلتها."
قلت: "لكن من قتل حنان؟"