بشير عمري - الجزائر
الأحلام المضغوطة
=1=
في الليل يسبح بي فراشي دوما إلى حيث فضاء أحلامي من دون يسراي. أفقدها على بساطه السحري دوما في أول نقطة من رحلة الحلم ولست أدري كيف؟ ولماذا؟ سألت مرة المرحومة جدتي التي كانت بارعة في ترجمة أحلام الناس وهم يأتون إليها من كل فج من بلدتنا عن ذلك، فبشرتني بخالص الحلال الطيب الذي به فقط سأعيش ما حييت، بينما ضحكت الدكتورة فبيان صديقة خطيبتي اللبنانية ريتا الخبيرة في علم النفس والمقيمة بباريس ملء الفيه وأنا أروي لها في أولى مكالماتي معها عبر الساتل بالإنترنت حكاية جسدي المبتور في الأحلام والتفسير الذي أعطتنيه جدتي وسألتني ساخرة:
"ألديك كمبيوتر بالبيت؟"
"أجل أميرتي لدي كمبيوتر، وإلا كيف أكلمك الآن؟"
"الأمر بسيط إذا. هو خلل في برنامج أحلامك. عد إلى قرصه المضغوط وأعد تركيبه من جديد."
وأقفلت باب نصيحتها تلك بضحكة قبل أن تقفل خط الساتل (*) بيننا.
قلت في نفسي: صدقت صديقة حبيبتي وإن ضحكت. فقط لو أعثر على قرص أحلامي المضغوط هذا.
=2=
كنت في مرتي هاته كعادتي في ما بعد ساعات الشغل أتسكع بشوارع المدينة من غير مقصد محدد والجريدة في قبضتي. ألقي على عناوينها الرئيسة بين الفينة والأخرى نظرة، وعشرا مثلها ألقيها على المارات أمامي من الفتيات. وأشمشم في بعض المرات في فسحة خيالي البيضاء باحثا عن أحلامي المضغوطة في قرص مثلما قالت صديقة ريتا، حتى أثارني في واحدة من نظراتي للجريدة عنوان بالبنط العريض لخبر تواصل فعاليات معرض القوات المسلحة بقصر الشعب.
من طبعي قلة زيارة المعارض إلا ما ندر، وفي الغالب أقتصر على زيارة معرض السيارات السنوي، ليس بنية الشراء طبعا فأنى لي بذلك، بل كدأب الشباب فقط: للتمتع بجمال أشكال السيارات وأجساد الشقراوات من عارضات السيارات المجريات والبولنديات على الطبيعة.
فصلت صفحة الكلمات المتقطعة عن باقي صفحات الجريدة. طويتها أربعا ثم خبأتها في جيب سترتي إلى حين العودة إلى مكتبي بالشغل، وتبرعت بباقي الصفحات الاثنتين والعشرين لبائع الأعشاب والعقاقير، وشددت بعدها الرحال إلى قصر الشعب.
على الرصيف تبدت لي كرزمة صرر مبعثرة قارئة الطالع المغربية عيشوش وأنا في الطريق المؤدي إلى قصر الشعب، فعنّ لي أن أستطلعها عن طالعي هاته المرة، فالناس اليوم ترى بعضهم مشدودا لأيام ماضيه، والبعض الآخر لأخبار مستقبله، وليس يليق أن أبقى أنا على الحياد بلا ذكريات ولا أحلام، فلا حياد اليوم في جغرافية التاريخ.
قرفصت قبالتها. رميت لها بقطعة نقدية مسبقا عكس ما يفعل زبائنها الكثر بمدينة بشار، حتى قيل إن السلطات فكرت في إخضاع عيشوش للضريبة أو تعيد ترحيلها إلى بعد الحدود بدعوى عدم وجود اتفاقية للتعاون المشترك في حقل استثمارها بين البلدين.
ومن دون أن أنبس ببنت شفة، مددت لها كفي الأيمن، فأبت ذلك وطلبت مني الأيسر، أدرت لها بجانبي الأيسر لعلها تفهم ولكنها لم تفعل، وزادت بأن سألت:
"أراك مشدودا إلى الماضي تود اجتراره."
"الماضي خبرته وكرهته يا امرأة. ولمَ تظنيني أريد اجتراره؟ أنت لا تعرفين كم فيه من الأسباب التي تجعلني لا أرغب في السماع عنه أو عن أمثاله حتى، بل المستقبل أريد. هيا أرجوك اقرئي ما في اليمين.
"ولكن المستقبل في اليسار."
"أو لا ترين أني فاقد اليسار؟"
"لقد فقدت معها خطوط مستقبلك التي هي على كفك إذن، وما عاد لك من مبرر للحلم بالبقاء في هاته الحياة."
راعني قولها فهممت منسحبا من مجلسها. مشيت نحو أربع خطوات، ثم تذكرت فعدت إليها وسحبت قطعتي النقدية من حجرها وتركتها خلفي تنكل بلسانها الحاد بمستقبلي بشر وأبشع الدعوات.
=3=
واصلت طريقي صوب قصر الشعب حيث معرض القوات المسلحة، لحظات فقط بالطابور أمام مدخل المعرض حتى جاء دوري لأمر بجهاز السكانير فرعد صوت جرسه ولمع برق ضوئه، فأمرني أعوان الأمن بالتراجع وقال لي أحدهم:
"انزع عنك ساعتك وحزام سروالك وهاتفك النقال وقطع دراهمك وولاعة سجائرك وكل ما هو حديد على جسمك وضعها جانبا ثم أعد المحاولة من جديد."
ورغم أني فعلت كل هذا الذي به أمرت، إلا أن جرس جهاز السكانير عاد ودوى بصوته واشتعل بضوئه الأحمر في وجهي مرة أخرى.
شيعني آخر بنظرة طويلة وسألني عما يلمع أبيض بيدي، فأخبرته بأنه خاتم والدتي الفلاحة، أهدتني إياه في إحدى المناسبات التي لم أعد أذكرها فصرخ في وجهي:
"تخلص منه هو الآخر. هيا بسرعة."
كل هذا ولم أفلح في تجاوز عقبة السكانير الذي واصل التحذير مني، وبدوره سألني سائل منهم وهو يتفحص جسمي بدقة وعناية:
"ما الذي تخفيه من الحديد ليثير جهاز السكانير كل هذه الإثارة، فهو جهاز أمريكي الصنع، حيادي وموضوعي لا يكذب ولا يحقد على أحد."
أثار كلامه شيئا من الضحك في، لكني كتمته بداخلي، بل وخشيت أن يكشف الجهاز الأمريكي الذكي ضحكتي المكتومة الساخرة من منطق الضابط مثلما يكون قد اكتشف الحديد المالئ لأحلامي وذاكرتي.
الحديد والذاكرة، فكرة ألهمتني تحضير إجابة مرتجلة فيما لو ضغطوا علي بالسؤال: كنت سأذكر لهم ما نصحتني به خبيرة علم النفس الدكتورة فبيان عن أحلامي المضغوطة وقرصها الضائع مني وعن ذاكرتي المليئة بحديد سيارات عليها شقروات هنا بقصر الشعب فلربما دوى جرس السكانير واشتعل ضوءه حين اكتشف هذا كله في.
أدركت أني عطلت سير طابور زوار معرض القوات المسلحة بقصر الشعب، نظرت إلى خلفي وإذا بالكل يتبرم ويضجر من مشكلتي التقنية هذه. نحّو بي جانبا ليضمنوا حسن سير الطابور وراحوا يفتشونني بدقة، فسألني من تولى هاته المهمة عن يسراي، فأجبته أني لا أعرف، فاحتار من جوابي قائلا:
"كيف لا تعرف؟ أولدت هكذا؟ أم أضعتها في حادث؟ أم ماذا؟
قلت في نفسي وأنا أكابد أوجاع هذا المأزق الذي وجدتني فجأة في أتونه: "ليتني طاوعت عيشوش وتركتها تقرأ لي ماضي بيمناي، فلربما وجدت فيها خبر ما وقع ليسراي، ولما كنت قد وقعت فيما أنا الآن فيه من وجع السؤال." عيشوش العجوز المغربية محقة فيما قالت: الذاكرة باليمين والمستقبل باليسار، وليس يسكن المستقبل بالذاكرة بل باليد، فعدت وأجبته بأني حقا لا أدري.
ثم بدا لي وأن شيئا من الشك في صحة عقلي قد ارتسم على نظراتهم. شرعوا في إعادة حوائجي إلي، وصار واحد منهم يلبسني كالطفل حزام سروالي وآخر يعيد إلى أصبعي وبقسوة خاتم والدتي، وهموا بإبعادي ككلب أجرب عن باب قصر الشعب حيث يقام المعرض، إلى أن قال قائل منهم ينضح وجهه بعلامات الحكمة والمسؤولية:
"حتى لا يقال حرموا ذوي الاحتياجات الخاصة من زيارة معرض القوات المسلحة دعوه يدخل، ولكن راقبوه بل وشددوا عليه الرقابة."
=4=
دلفت أخيرا إلى صالون القصر. دوختني في البدء أصوات الأناشيد الوطنية وأغاني البطولات. وعبارة "ممنوع اللمس" موضوعة على حافة رفوف كل القطع الحربية المعروضة، والزوار أخذوا شكل المتطوعين، حتى خيل إلي أن قصر شعب قد تحول إلى مركز تدريب عسكري.
توزع الشباب من تلقاء أنفسهم إلى زمر ومجموعات منتشرة هنا وهناك. انخرطت في البدء في مجموعة القوات المحمولة جوا كانت تستمع لشروحات الضابط كيف أنه استعمل قطعته الحربية ببراعة وفعالية في حرب67، اختارني من بين الحضور لتمثيل عملية اقتناص طائرة للعدو وهي تنفث في أجوائنا وفوق أراضينا ببندقية الصيد التي زعم أنه دمر بها ثلث أسطول العدو الجوي في الحرب، فاعتذرت له بسبب يسراي الضائعة وقلت له:
"كما ترى فأنا معفى من الجندية."
لم أقتنع بما كان يتفوه به فبدلت المجموعة. ألفيتني ضمن أخرى للمشاة وهم يستمعون لحديث ضابط صف عن تجربته الناجحة مع قطعته الحربية في حرب 73، نظر إلي وأنا سابح ببصري في علو سقف قصر الشعب الذي بناه الأتراك قديما، وأتأمل المسافات الكبيرة الفارغة بين سقف القصر وصحن أرضه، أهش بما تبقى لدي من الجريدة لأطرد الذباب عن وجهي، فاستدعاني من سرحتي في سقف قصر الشعب وطلب مني التوقف عن ذلك، والاهتمام بما يقول أو الانسحاب من حلقته، فاخترت الثانية طبعا.
=5=
وأنا كذلك، وإذا بألم حاد بدأ يتنهشني في موضع يسراي المبتورة، وشيئا فشيئا راحت يدي تنمو وتكبر وتظهر للعيان مجددا، وبالقدر الذي فرحت به لعودة قطعة مفقودة مني إلى جسدي حزنت للمكان الذي حدثت فيه العودة الميمونة تلك.
أسرعت ومخاض عودة اليد يقطعني إلى إحدى زوايا القصر مختفيا عن الأنظار التي تراقبني وتطاردني، وهوس السؤال الجديد عن يسراي العائدة يكاد يقتلني. كيف سيصدقونني إذا ما رويت لهم حقيقة ما حصل؟
وأنا في الحالة هاته وإذا بانفجار مدو يهز أركان صالون القصر، قيل إنها قطعة حربية قديمة لم يتحكم فيها أحد الشارحين للزوار من عساكر المعرض، أما أنا فبحثت عن نافذة للهروب فلم أجد. كل النوافذ محكمة الإغلاق بقصر الشعب.
تذكرت كيف كانت صديقتي اللبنانية ريتا تنتقد أعمالي عبر الصور الفوتوغرافية التي كنت أبعثها لها ببريد الإنترنت، وتدعوني دوما إلى تفتيح نوافذ وأبواب وشرفات القصور الطينية التي كنت أنحتها وأبيعها للسياح القادمين من بلاد الريح والثلج الذائب إلى مناطق الجنوب الجزائري النفطية الفقيرة. وقتها نذرت لها في نفسي أمرا لئن استطاعت النجاة مما أنا واقع فيه اللحظة لأفتحن كل أبواب ونوافذ وشرفات قصوري المنحوتة.
سحبت يسراي الوليدة بمعرض القوات المسلحة بقصر الشعب من كمها وألصقتها بضلوعي، وأرخيت كُم معطفي و دليته لأبدو مبتور اليسار كما دخلت القصر الشعب أول مرة.
تدافع الناس للخروج هاربين من قصر الشعب لكنهم اصطدموا بعقبة السكانير من جديد، سكانير عندما تدخل، وسكانير عندما تخرج. قلت في نفسي حين جاء دوري قد لا يكون الخروج من قصر الشعب مثل دخوله.
دوى صوت الجهاز معي من جديد حتى وأنا أمارس حقي في الخروج من قصر الشعب. أمسك العسكري بيدي ومال بي جانبا وهو ينزع عني بوحشية قميصي حتى إذا ما كشف يسراي صاح:
"المبتور صار بيد."
طرحوني أرضا وأنا أصرخ: "دعوني وشأني، لم أدخل شيئا للقصر، ولم آخذ شيئا. وكفي ليس من حديد. الصفير لعطب السكانير."
قال لي صاحبي من عساكر الدخول:
"ألم أقل لك أن السكانير أمريكي حيادي لا يكذب ويكتشف الاحتيال، فيسراك المخبوءة هي ما كان يثيره كل تلك الإثارة. لم هذا البلاغ الكاذب؟ لم خبأت يسراك أيها المحتال الكاذب. تكلم أيها المارق."
تذكرت للتو شكوكهم السابقة في سلامة عقلي فسعيت لتأكيدها بالتظاهر بها حيث رحت شيئا فشيئا أكشف عن جزء من عورتي، وصعدت من إيقاع الضحك من حالي، ورفعت رجلي إلى السماء وحركتهما على طريقة سياقة الدراجة الهوائية، فرموا بي ككلب أجرب خارج القصر.
في طريق عودتي إلى بيتي تذكرت من جديد الحاجة عيشوش المغربية، فقررت أن أصالحها بدنانير معدودة، ثم زدت عن ذلك بأن قررت أن أهديها هاتفي النقال، وبالمرة استقرئها كفي الأيسر بعد إذ عاد إلى جسده.
نظرت عيشوش إلى كفي الأيسر وأنا أضعه على حجرها. فغرت فاها ثم غطته بكفها الأيسر.
"أنت من جديد؟ آسفة بني. لم أعد قادرة على المستقبل. أنا الآن أقرأ الماضي بالكف الأيمن.
أقلقني تحولها من قراءة الأكف اليسرى إلى الأكف اليمنى فخفت من إمكانية أن يصادفني في مسافة الطريق إلى البيت سؤال كالذي صادفني قبالة باب قصر الشعب فلا أجد له جوابا.
شرعت أمامها أفتش نفسي وأحصي كامل أعضاء جسدي فلم أطمئن. رميت الموبايل في علبة الزبالة بالقرب من مجلس عيشوش وطرحت لها كفي الأيمن.
"أنا أيضا أريدك أن تقرئي لي الماضي."
= = =
(*): الساتل اختصار لكلمة ساتالايات التي تعني القمر الصناعي/الفضائي.
◄ بشير عمري
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ