الطيب عبادلية - الجزائر
قلب وشمع أحمر
"كذبتني وصدقتهم. أعموني. كنت أظن نفسي تزوجت برجل مثقف واع لا بمسجل، لكن يظهر ... "
"أرجوك. يكفي إهانة، والعفو من شيم الكبار."
صرخت فيه. أول مرة تصرخ في وجهه. وجه الرجل الذي أحبته بكل أنوثتها وعزتها وكبريائها. صرخت في وجه القلب. وجه قلبها الآخر. القلب الذي أتعبها طيلة هذه المدة الطويلة. قالت بتحد وشموخ:
"بل افهم أنت جيدا. عد إليهم. سوف يجدون لك امرأة تعيش على رغبتهم وتتكيف مع هواهم. أما أنا فإني دفنت في قلبي الرجل. ذلك الرجل الذي أحببت ذات مرة."
وسكتت. سكتت وهي تنظر إليه وفي نظرتها لهفة. فيها حنين وحنو عارم جارف، رغم الثورة الهادرة. ولم تر الناس الذين التفوا حولهما عندما تعالى صوتها، ثم أكملت:
"انتهت المناقشة. وهناك من ينتظرني. يجب عليك الآن أن تكمل الطريق بأرجل الناس، لأنك تتكلم لغتهم. وتفهم فهمهم."
"وابنتي؟"
وقاطعته قبل أن يكملها.
ومع ذلك قالها كآخر أمل يتوسل به لها أن تعفو عنه وتسامحه. فالتفت إليه وهي أكثر شراسة وحدة. يتطاير الغضب من عينيها وهي تصرخ بلهجة لا تخلو من السخرية.
"ابنتك، ابنتي."
وبمرارة تحنط الصوت المحموم سألته: "وهل الآن فقط أدركت أن لك ابنة؟"
"مهما يكن الأمر. فهي. فهي تحمل اسمي."
وتلعثم وهو يحاول أن يكمل: "واسمك. نحن. نحن الاثنين."
"أبعد عشر سنوات تذكرت أن في هذه الدنيا حيوانا يحمل اسمك؟ أتقول عنه إنه ابنتك؟"
قالتها وهي ترتعش غضبا. يتلون وجهها.
"قلت لك الناس. أنت."
فقاطعته: "الناس هم الذين غيروك. وأنا أعرف الأسباب. كرهت حجتك الغبية. وأنا لا نصيب لي حتى تفهمني. لماذا لم تعطني عشر الفرصة التي منحتها لأهلك وللناس؟"
ضغط بيده اليسرى على جبينه وارتعاشة خفيفة تسري في أوصاله، وكأنه يعتصر فكرة يستنجد بها ضد عنادها. يقاوم بها إعصار ثورتها. فقال بهدوء يقتله اليأس:
"اسمحي لي على كل حال."
ودون أن تسمع بقية كلامه ردت عليه وكأنها تدافع عن كبريائها. تدافع عن كرامتها التي أهانها منذ عشر سنوات.
"وأنت لماذا عاقبتني على ذنب لم أقترفه؟ بل لماذا قتلتني؟"
وتنهدت بحرارة وهي تبرز موقفها وتثبت له مدى ضعفه.
"أو لأجل أنني وقفت إلى جانبك معينة لك على غلبة الدين وقهر الزمان؟"
وبكت وكأنه الآن فقط طلقها. أو كأنها الآن عرفت تفاهة سبب طلاقها. كانت تعيش على أمل. أمل كبير. لكنها أفاقت على غربتها التي عاشتها عشر سنوات كانت تظن أنها أمل. فإذا هي سنوات قضتها محطمة. مفجوعة. كل الوجوه التي التقت بها كانت مطلية بغراء براق تخفي وراءها نية خبيثة و... و...
كل الذين عرفتهم خلال هذه المدة حاولوا أن يغزوا دنياها وأن يقتحموا قصر قلبها ويدخلوه، وهي أغلقت كل منافذه بالشمع الأحمر. رفضت المقايضة، فاللعبة كانت خاسرة قبل بدايتها. طاردوها. فقاومتهم وانتصرت عليهم. لاحقوها بألسنتهم. فصبرت. كافحت بكل ما في نفسها من إيمان وثبات. ومع ذلك، كانت كلما اختلت بنفسها دق قلبها في أذنها فأبكاها. وتقوم من جديد، تمسح دموعها لتكمل الطريق الذي اختارته لنفسها، وقد اختارت أن تكون وحيدة بلا ظل، بلا رفيق، بعد أن حنطت قلبها الذي مازال ينبض شبابا وجمالا. حنطته بالشمع الأحمر، فإذا به يقف أمامها، يعترض طريقها وقد اختارت أن تكون فيه وحيدة من بعده. يطلب منها الصفح ويقول لها "ابنتي". وهي التي لم تضعف أبدا أمام أي كان في لحظة كانت بينها وبين السقوط قشة.
الآن تجتاحها عاصفة الضعف وكأنه أول مرة يلتقي فيها معها. ويكلمها بتلك اللهجة التي لم تتغير رغم آثار التغيير التي اجتاحت ملامحه. مازال ينطق اسمها بتلك النبرة الحارة الدافئة، فيضعفها. يقتل بصوته الحنون كل قوى مقاومتها. ومع ذلك قاومته كما قاومت غيره. وهو ليس غيره. إنها تعرف أنها امرأة خلقت لتكون غريبة. طيبة. لا يفهمها الناس رغم فهمها لهم جميعا.
واعتراها في تلك اللحظة شعور غريب لو يتمادى في إصراره. لو يفرض عليها حتميته. إنها لا تستطيع أن تقاوم عناده. إنها تقاومه لكنها في قرار نفسها تتمنى عودته. فهو... آه، إنه لم يفارقها طيلة مدة فراقه لها، وإن حالته تؤكد أنها لم تغب عن باله لحظة منذ ذلك الوداع.
ولو يفتح حقيبتها في تلك اللحظة لوجد صورتهما التذكارية. وصورة ابنتهما. لو أدخلت يدها إلى جيب سترته لوجدت عطرها تفوح به مناديله. إنها أغلقت قلبها من بعده على الناس بالشمع الأحمر، كأنها إشارة ممنوع المرور والوقوف والاقتراب. أغلقته عليه وهو في أعماقها نواة حية. تؤلمها إذا هي تحركت لتنمو بداخلها، وتتلذذ بألمها. تقاومه وهي في ذات الحين تتمنى بقاءه إلى جانبها، وأن يعود معها كما كانا يعودان كل مساء.
أذهلته بموقفها العنيد. لم يكن يدري أن ثورتها نحوه سوف تكون عاتية بكل هذه الحدة والشدة. وفكر قليلا. فكر دون أن يتخذ قراره، فقد يكون مخطئا، والخطأ كلفه عشر سنوات من الغربة والتمزق. وهي بجانبه تنتظر قراره متمنية أن يكون تحديا لها، وقد عشقته متحديا. وهي غارقة في تفكيرها. حالمة. متذكرة. وقد هزتها عودته المفاجئة. توردت وجنتاها خجلا.
فجأة شدها من ذراعها وسار بها وهو يهمس في أذنها:
"لنعد إلى بيتنا وهناك يجب علينا أن نتفق."
فكرت في كلامه. وقد تفطنت إلى زحمة المتفرجين، وقالت بهدوء واستسلام:
"معك حق."
وسارا جنبا إلى جنب. كما كانا يفعلان كل مساء ومنذ عشر سنوات. وبدأت دماء الحب الغزيرة تتدفق في شرايينها وتراقص قلبها، فتذيب عنه الشمع الأحمر.