فنار عبد الغني - لبنان
إمرأة بلا دموع
الفضاء البعيد، المضيء بنجوم مبعثرة، الرائع بسكونه الصيفي، لم يزد صدرها إلا خفقانا. ودقات ساعة ضخمة، قديمة الطراز تتوسط الصالة الكبيرة في البيت جذبت أعصابها المشدوهة بقوة: "إنها الثانية صباحا. لا بد أنه قد وصل الآن."
تنهدت ببطء شديد وهي تتكئ على الجدار قبل أن يجرها العطش إلى الثلاجة. شربت وشربت وشربت ولم تشعر بأي برودة في جوفها. تابعت صب الماء فوق رأسها ووجهها وعنقها ويديها، لكن دون جدوى. لا زالت تشعر بالظمأ وبدبيب حمى مشتعلة في كل عروقها.
عادت إلى الرواق الطويل تدور فيه شرقا وغربا، تسرع مرة وتتثاقل بخطاها مرات ومرات، ثم تغادر بفزع وتدخل غرفته على أطراف أناملها كعادتها، تتأمل السرير الفارغ، ثم تنطلق مسرعة باتجاه صوت بعيد، تقترب من الهاتف المحمول، تحدق به: لا وجود لأي إشارة. الصوت قادم من الطوابق السفلية.
تلقي بنفسها المتعبة فوق كرسيها الهزاز، تغمض عينيها، ترسل شهقات متقطعة، تعاود إشعال السجائر، تدفع الكرسي بشدة، لتسمع الجدران والغرف الصامتة حركتها، تسأل نفسها: ماذا بعد؟ هل ستبكي الآن؟ أستقبع في هذه الحجرة الباردة تحادث وحدتها؟ تجالس الصور المعلقة بالأطر المذهبة أمامها؟ تراقب امتداد الخطوط العريضة فوق وجهها ويديها أم تسترسل في شرب القهوة؟ ترقب حدوث شيء ما، مفاجأة سارة أو مخيبة للآمال، لم يعد يهم الآن، ما دامت ستغير من إيقاع أيامها.
تجرها الوحدة إلى ذكريات عقدين من الزمن مرا بتثاقل في مدار حياتها ساعة انطلقت شرارة الحرب، ودفعت بشريك عمرها إلى أقصى الأرض. تتقاذف الصور متهالكة من ذهنها. تحاول النهوض والهرب إلى الشرفة، فتعجز، تهدأ دقات قلبها، تتذكر كلماتها: أيام قليلة وستنكب إرادتك، ستتصلين بي لأرسل في طلبك.
أيام قليلة وتتطوع في جمعية لمساعدة جرحى الحرب، وتستقبل بعد أشهر قليلة وليدها الأول والوحيد. بكل أمل رعته وحدها، وتابعت العمل ليلا نهارا حتى غدت مديرة شركة كبيرة ومالكة لشقة فخمة في برج المدينة. يطل بوجهه الجميل من خلال سحب الدخان وهو يعتمر قبعة التخرج، ويأتيها صوته:
"أمي أرغب في استكمال دراستي في الخارج. لم لا تذهبين معي؟"
عندما طبعت على رأسه قبلة الوداع طمأنته:
"لا تقلق علي، سأصعد إلى الجبل ليومين فقط، وربما أصطحب جدتك معي."
لقد أخبرت الجميع بذلك. انطلقت بسيارتها مسرعة نحو الجبل تروي صدرها من صافي الهواء، لتعود بعد ساعات قليلة إلى بيتها سرا بعد أن ركنت سيارتها في موقف بعيد.
"آتشم."
يشتد سعالها. تهرب من الغبار الكثيف، وروائح التبغ، تدفعها خطواتها المترنحة إلى غرفته. معطفه الجلدي ممدد على السرير، لبسته فوق منامتها الصيفية، وفتحت باب الشرفة بحذر. الصمت يطبق على الطوابق السفلية وعلى السماء.
استلقت على الأرجوحة، شعرت باهتزاز خفيف، عيناها مشدوهتان إلى الفضاء، ثمة كوكب مرجاني اللون يهتز برفق، بدا كنقطة دم كبيرة. خرجت لتوها من قلب يحتجب خلف صفحة سوداء. أطبقت جفنيها على صورته، وراحت تسبح معه بصمت، تحاول النوم قبل بزوغ شمس يوم عمل جديد، ستستقبله مع نظارة سوداء سميكة، سترافقها لأيام طويلة.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ