عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد القادر حميدة - الجزائر

متى ننطلق؟


"لكنني خشيت أن أفقد لذة الكتابة." (الروائية الجزائرية فائزة قين).

.

قلت لي في ذلك اليوم البعيد: "متى ننطلق؟" أخذت نفسا عميقا من سيجارتك "الريم" ورنوت للبحر. كان كورنيش المدينة البيضاء يكاد يكون خاليا من رواده، العشاق خاصة الذين لا يعجبهم في منظر تلك الزرقة أكثر من تلك النوارس التي تملأ الأفق. ابتسمت ابتسامة الزعماء وأنت ترمقني ساهما، كأنني أفتش عن إجابة: متى ننطلق؟

في الصباح كنا في مكتب رئيس التحرير، ذلك النحيف المعجب بنفسه حد النرجسية، والذي استدعانا لأمر يهمنا، أو هكذا جاء في عبارة الدعوة التي تلقيناها، والتي غمرتنا بإحساس الوصول للحظات، ففي ليل مدينتنا البارد، في غرفتك العلوية، وعلى أنغام الست رحنا نقرر مستقبلنا في هذه المهنة. قلت بالتأكيد أعجبته كتابتنا، ولذلك أراد أن يستثمر خدماتنا. ثم أمرتني: جهز نفسك، سنسافر للبيضاء صباحا.

وقبل أن أغادرك في تلك الليلة، أخرجت دفترا صغيرا، وأظهرت لي كتابة فرنسية مرتبكة، قلت إنها بخط يد فاطمة، وإن ترجمة تلك الكلمات كالتالي:

"قد تغرب الشمس دوننا، لكنها لن تلد جراحا بعمق جراحنا."

كانت عبارة رائعة. لم تكن تدري حين سألتك عنها إن كانت لفاطمة حقا، أم لكاتب كبير، المهم عندك أنها تحمل رائحتها، وعنفوانها، لتؤثثك كلما انتابك السأم، وغزتك اللاجدوى. وبعد أن أفرجت عن ذلك السر الدفين، تنهدت قائلا:

"فاطمة والبيضاء وجهان لعملة واحدة."

فاطمة تبدو لك وكأنها مدينة ساحلية عتيقة، والبيضاء ترهبك حين توحي لك بأنها عذراء شامية. تبسمت حينها قائلا:

"شامية أم موريسكية؟"

ضحكت، وقلت موعدنا الصبح يا صديقي.

* * *

حين وصلنا مقر الجريدة، هالنا ضيقه، وفوضى ممراته، وتداخل غرفه. قلت حين أبصرت ذهولي:

"جريدة الأهرام انطلقت في غرفة ضيقة."

قلت لك: "لا تهم القشور. ماذا عن اللباب؟"

أبطأ رئيس التحرير في إذنه لنا بالدخول. كانت عنده كاتبة أو زائرة أو معجبة، كانت جميلة بعض الشيء. إنها سيدة صالون، حسبما قلت. وحين دخلنا استقبلك بالقبلات والأحضان: كانت بينكما سابق معرفة لكن في غير مجال الكتابة، ونظر إليّ مستصغرا شأني، ولم يتمالك نفسه ليعلن ذلك في وجهي:

"أمعقول أن تكون أنت كاتب مقال "العقاد ليس عدوا للمرأة"؟ أشك في ذلك."

لكزتني بذراعك حتى أصمت، وتوليت أنت تعداد بعض مناقبي، وحين سمعك تنهد قائلا عبارة قرأت عنها كثيرا، وبدا كأنه هو مبدعها: "يا ما في الزوايا خبايا."

طلب لنا فنجاني قهوة، وعرض علينا العمل عنده، بمقابل نحن في اشد الحاجة إليه، لكننا رفضنا. ربما كانت طريقته في التعامل معنا سببا كافيا للرفض. أنهى المقابلة، كآخر قشة يتمسك بها حفاظا على عنجهيته وترفعه، وخرجنا باتجاه البحر. قلت لي: "هناك سنتقابل مع شلة البيضاء، إيه لم ألتقيهم منذ سنوات."

كنت أعرف الشلة من خلال أحاديثك عنها، كنت أقرأ كتاباتهم في الجرائد: الثورة، الرفض، الانطلاق، حب الحياة، سمات مشتركة بينهم.

سعاد التي تفضل أمل دنقل عن كل ما سواه.

كريمة التي تعشق حد الهوس رواية ذاكرة الجسد.

ريم التي تنتصر دائما لطه حسين على حساب العقاد.

يحيى الذي يحفظ مذكرات الولد الشقي لمحمود السعدني عن ظهر قلب.

أنت، الذي كتبت فرافير يوسف إدريس في دفتر صغير ورحت تقرأها على كل من تلتقيه، حتى سمتك الشلة "يوسف إدريس".

أما أنا، فكانت شلة البيضاء قد سمعت منك عني نتفا، حينما حدثتهم عني بمناسبة نشر قصتي الأولى " خيط دخان ". يومها قلت لهم عني إنني متأثر بأسلوب غسان كنفاني، وإن قراءاتي في لغات أخرى لا بد وأنها تطفو حينا بعد حين بين كلماتي.

* * *

لكننا بقينا ننتظر ولا أحد جاء من الشلة. حينها طلبت مني أن أقرأ عليك أبياتا من القصيدة التي تحبها جدا والتي قلتها في عيد ميلاد فاطمة، امرأتك الأسطورية التي ظللت توحي إليّ أنك التقيتها يوما، هنا في خريف البيضاء. وحين رحت بأسلوبك الشاعري تحدثني عنها: "كانت نسمات خفيفة تعبث بخصلة شعرها، وهي تدوس بحذائها الوردي أوراق الطريق الندية، الطريق من أعالي العاصمة إلى الكورنيش."

كنت أنا أستمع إلى حنينك واكتب قصيدتي الأثيرة لديك: "وحيدة ".

يا وحيدة

شبيهان نحن في افتضاض زرقة البحر

وفي مده ما شاء لنا الماء

بلا موعد سوف نمضي إذن يا وحيدة

لكنه الغيم يحكمنا والرذاذ

وفجأة التفت إليك فوجدتك تبكي. فاطمة أخلفت وعدها، ونحن لم ننطلق بعد لنخلد أحلامنا البهية الدافئة التي انعجنت بطين وقرميد حينا العتيق في مدينتنا الجنوبية الآسرة.

متى ننطلق ليعرف الناس أن لنا أحلاما كبيرة؟ حين نطبع قصصنا وأشعارنا ورواياتنا، أم حينما يكتب عنا النقاد الكبار ونصبح أسماء معروفة؟

أخذت نفسا عميقا من سيجارتك "الريم" ورنوت للبحر قليلا. ابتسمت ثم قلت لي:

"آن لي أن انطلق."

لم أفهم شيئا إلا حينما احتضنك البحر، حلما ازرق، ودمعة هي البحر نفسه، ومجموعة قصصية مخطوطة تناثرتها الأمواج، وغطت وجهي ورقة إهدائها. إنها عبارات ماياكوفسكي: "إياكم والجعجعة فإن الفقيد كان يمجها."

D 1 شباط (فبراير) 2009     A عبد القادر حميدة     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  ولادة يائسة

2.  الإذاعة المدرسية وأثرها في بناء شخصية الطالب

3.  غزة: دورتان في الصحافة الإلكترونية

4.  كلمة العدد 80: العدالة الاجتماعية ونهاية التاريخ

5.  لحظة انتظار

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox