عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عباس علي عبود - السودان

مرافئ السراب (*)


(*) أحد أربعة فصول من رواية بهذا العنوان. الفصول الأخرى تنشر تباعا في الأعداد القادمة. يمكن الرجوع إلى فصلين آخرين نشرا في العددين 14 و 23.

.

عباس علي عبودكانت رائحة أشجار الأكاسيا تعطِّر المروج. ساشا وناتاشا يتهامسان وسط الخضرة اليانعة، بعد انقضاء أيام الشتاء الطويلة، وحلول الربيع. عاشا في شقتين متجاورتين. ترافقا منذ الطفولة إلى الروضة، ثم إلى المدرسة، وسط مدينة تشيرنوبل في أوكرانيا السوفيتية. تجولا يترنمان بأغنية شجية. تحت الظلال الندية، احتضن كفها الصغيرة. برفق ضغط عليها بأنامله. صمت كأنَّما يستجمع خيوط المعاني الهاربة، ثم قال:

"أبي سيرحل للعمل في موسكو."

"وهل ستسافر معهم؟" وقبل أنْ يرد عاجلته: ""أنت تمزح أليس كذلك؟"

"لا."

"إذا أردت الرحيل فأنتَ حر. ولكن هل ستدعو أحدا لمرافقتك؟ هل فكـرتَ يومـا في الرحـيل إلى بلاد أخـرى. فلنبدأ، ومنذ الآن، التخطيط للسفر يومـا ما، إلى بلاد جميلة. أنا أتعلم الإنجليزية، والفرنسية. وأنت تناسبك دراسة هندسة السيارات، هل أخطأتَ؟ ها ما رأيك؟"

"أفكاركِ جميلة وخيالك واسع، ولكن نحن لم نكمل الصف السابع. الطريقُ طويل، وإذا حدث أمر ما وافترقنا؟"

"أنا لن أفعلها."

"لم أقصد."

لزما الصمت وخطواتهما وئيدة وسط الخضرة اليانعة، والربيعُ يهفهفُ بالشذى. دوَّت صافرات الإنذار فركض الجميع إلى مساكنهم. كانت الأوامر صارمة:

"أغلقوا النوافذ لحين إشعار آخر."

كان الإشعاع المرعب يجوب الطرقات والحقول. أُسْدِلتْ الستائر وخَفَتَ الكلام، ثم خيَّم الصمت، والخوف.

غادر رجال إطفاء الحرائق النووية مكتب القائد إلى غرفة العمليات. كانت الوجوه رزينة مفعمة بالأسى، وفي الأعماق تحفَّز الرعبُ القابعُ منذ سحيقِ الآماد. ابتسامات تبدو محايدة، ارتسمتْ على شفاه باردة. ها هي خطواتهم يدوزنها نداء الفداء والفناء، وبيارقُ أمل تناوش الخواطر، توسوس باحتمال حياة أخرى.

هل يذهبُ الإنسانُ هدرا لوجهِ الأحزان؟ شدَّ القائد على أيديهم الواحد بعد الآخر. كان يزفَّهم إلى الموت، وكانوا يعرفون. ظلَّت مراصد الإشعاع تسجل ارتفاعا متواترا في فنلندا والسويد. الدقائق نازفة والثانية تعني مزيدا من الخطر الداهم. ربما دارت كلماتهم القليلة حول معاني التضحية، وفناء الجنس البشري. أيُّ حنين اتقد بوجدانهم؟ أيُّ أحلام تبخرتْ من عقولهم بعدما غوَّرتْ جذورها في الصدور؟ أيةُ ابتسامة على الوجوه فداء للإنسانية؟ ربما ارتفعت تماثيلهم وأسماؤهم يوما على ضفاف النيل، والسين، والمسيسبي. رافقهم صمت مبتور، وكلمات ضلَّتْ معانيها، حتى دخلوا مكامن الحريق النووي، وأغلقت الأبواب. كانت مهمتهم إيقاف الحريق في مفاعل تشيرنوبل، وكان الثمن حياتهم، وكانوا يعرفون.

سيارات الإسعاف حملتْ المصابين إلى مستشفيات المدن الأخرى. نزح السكان وسط موجات الهلع خوفا من الإشعاع القاتل. ناتاشا تومانوفا نزحتْ مع أسرتها إلى لينينغراد حيث أكملتْ المدرسة. عقب انهيار المنظومة السوفيتية انتقلت أسرتها إلى موسكو، لكنها آثرت البقاء في المدينة التي أعيد إليها اسمها القديم. كانت حينها قد التحقت بجامعة بطرسبورغ لدراسة اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وانتقلت للعيش في سكن الطلاب. طارق عبد المجيد عرفها ندية عذبة، رغم غيوم التوجُّس والأحزان. في شارع نيفسكي قالت له:

"هل زرت مدينة بوشكين؟ إنها قريبة من هنا. إذا وافقت سنرحل إليها بالمراكب على نهر النيفا. الرحلة رائعة."

"موافق، بوشكين اسم له رنين في ذاكرتي."

"بوشكين الشاعر الروسي العظيم، إنه منكم، جده من إثيوبيا."

ران بينهما الصمت. وبينما طارق عبد المجيد يحدِّقُ بعيدا قالت له في نبرة حائرة:

"ما السِّرُ وراءك؟ كأنَّك ضيَّعتَ فكرة ما، أملا أو معنى. أم إنها الغربة عن الوطن؟"

"لا شيء"، أجابها. وانداحتْ ذكرياته إلى البلدة ووداع الأهل والجيران.

حين حطت الطائرة في مطار موسكو كانت السماء ملبَّدة بالغيوم. غادر المطار وسط الخضرة الكثيفة إلى محطة القطارات. ليلا انطلق إلى بطرسبورغ ليبدأ هناك دراسة اللغة الروسية. وبعدها يبدأ دراسة الماجستير في الفيزياء، حسبما تعاقد مع الجامعة. ندى الحاج سعيد زودته بما يكفيه عاما كاملا، إضافة إلى مصاريف الدراسة. وعدته أنْ تلحق به بعد انتهاء بعض أعمالها في ماليزيا.

انهمك سريعا في دراسة اللغة الروسية. أمطرتْ السماء مدرارا ثم حلَّ الشتاء سريعا، وقاسيا، فلزم سكن الطلاب. يخرج صباحا إلى الجامعة بعد ارتداء ملابس الشتاء الثقيلة، والشابكا، وقفازات الصوف. ويعود من الجامعة إلى حجرته. يحضِّر طعامه لوحده، يرتاح قليلا، ثم ينهمك في تحصيل اللغة التي بدتْ له في أول الأمر كشقشقة العصافير.

كانت الثلوج تغطي الساحات، والأرصفة، وأسطح البنايات. موجة صقيعية هبَّتْ من القطب الشمالي. عاد إلى حجرته في ذلك النهار كأنَّ حريقا يلسعُ أطرافه. وقبل أنْ يرتاح قليلا حلَّ الظلام. من وراء زجاج النافذة كانتْ الثلوجُ ناصعة والليلة هادئة. سرى بخياله إلى الليالي المقمرة على الشاطئ الرملي. ردَّد خاطره قصيدة البلدة، التي كانوا يحفظونها عن ظهر قلب. ومع الأيام، تبدَّدتْ معظم كلماتُهَا من الذاكرة:

عزيزتي

يا أمي التي أحب

يا دوحة تهزُّها الرياح في الدياجي

لكنَّها تحنُّ للصباح

وعندما يسيلُ في شعابِها القمر

والنيمُ يرتوي شعاع

تحسُّ أنها تعانقُ البعيدَ والبعيد (1)

في عربة القطارات الجوفية حاول أنْ يبدد هواجسه بالإصغاء لصوت قادم من الأعماق. أمامه مباشرة طفلة جالسة تداعب أناملها وبجانبها امرأة تقرأ في كتاب. كانت القطارات الجوفية تبعث في نفسه الضجر. وعلى الرغم من أنها تختصر الزمن، لكنه كان يشعر بإيقاع الثواني بطيئا، مملا.

ندى الحاج سعيد أبلغته بمواعيد وصولها على الطائرة الروسية القادمة من القاهرة. تخيل نفسه معها في قطار تحت الأرض، يجري بلا نهاية. اقشعرَّ بدنه بينما القطار ينهب المسافات. كانت الثواني جاثمة على صدره، غوَّر الملل بين الجوانح بينما خياله يظعن في بيداء الأسئلة الحارقة، والقلق المبرح. وقال في نفسه: "ندى الحاج سعيد الإدمان البليد."

غادر عربة القطار في المحطة الأخيرة. صعد السلم الكهربائي إلي السطح، ثم ركب الحافلة حتى مطار بطرسبورغ. في صالة القدوم تجوَّلَ وسط المسافرين والمودعين كي يبدّد قلق الانتظار. وقف قريبا من بوابة الوصول يراقب القادمين. أبصر ندى الحاج سعيد. كانت ترتدي بذلة نسائية رمادية، وفوق شعرها طرحة بيضاء شفافة. تعانقا شوقا وغبطة. طمأنته على الأهل والبلد وقالت له:

"حجزتُ غرفة في فندق يطلُّ على الخليج الفنلندي لنسكن معا لحين عودتي، ثم تعود إلى سكن الطلاب."

لم يعلق على اقتراحها سلبا أو إيجابا. كان الطقس ربيعيا منعشا، الخضرةُ يانعة وأشجارُ التفاح على جانبي الطريق. في سيارة التاكسي احتضن كفها بين يديه يدندن صدره أنغاما حائرة. أمضت معه عشرة أيام، وقبل عودتها قالت له:

"حصلت على ورقة الطلاق نحن الآن أحرار."

وفي شارع نيفسكي سطعتْ في صحراء أيامه ناتاشا تومانوفا. هل رماها القدر في طريقه لتضمِّد جراحه القديمة؟ أم لتفتح جرحا جديدا على أفق مأزوم؟ رآها للمرة الأولى تحت ظلال الأشجار العميقة الخضرة، صيفا وجامعة بطرسبورغ عابقة بالشباب. فتيات يانعات، خصلاتُ الشعرِ تداعبها النسمات. أردية قصيرة، أفخاذ مستديرة، سيقان وخطوات رشيقة. تجول معها على ضفاف النيفا المتفرع كأصابع الكف. كان النهر يتهادى رماديا تلطم أمواجه الضفاف. يزوره العرسان، يلقون في مياهه الزهور والأمنيات. تضحك أمواجه للجميع، ويمضي التيار.

تأمَّل التماثيل التي تزين سقف متحف الأرميتاج، وكأنه أدرك للتو حاجته الملحَّة لإنسان يأوي إليه من وحشة الحاضر، وضراوة الذكريات. بعين خياله أبصر ناتاشا تومانوفا على ضفاف بحيرة الوفاء، سابحة إلى أفق ما. انبثقتْ بصدره أشواق كامنة، فتسلل إليه صوتها الرقيق:

"أظنكَ في شوق إلى جميع أهلك، هل تذكرت دروب الوطن؟"

"نعم، ولكني أبحثُ عن درب آخر."

"أيُّ الدروب تقصد؟"

"دروب المعاني المستحيلة.

"المحاولة هي المعنى الأصيل."

"يمكنني الموافقة."

"نحن نراود العشق، والصدق، والسلام، وقد لا ندرك أيهم."

إلى محطة القطارات رافقته ناتاشا تومانوفا لوداع زميل أكمل الدراسة وفي طريقه إلى موسكو، ومنها إلى الخرطوم. تحلَّق الطلاب حول المسافر. بعضهم حمَّله رسائل ووصايا إلى الوطن. آخرون حذروه من ضيق فرص العمل وعسكرة الخريجين قبل إلحاقهم بالوظائف، إنْ وجدت. ناتاشا همست له:

"نكم اجتماعيون." ثم استدركتْ: "أم إنها الغربة قرَّبتْ بينكم؟"

هزَّ رأسه قائلا: "نحن هكذا."

على سواحل الخليج الفنلندي حين اكتمل القمر بدرا، تعانق صيف الطبيعة والروح. الأمواجُ العاتية، العالية، لطمتْ الساحل الصخري، فتناثر الرذاذ بعيدا، دغدغ وجنتي ناتاشا تومانوفا وبلل شعرها المتطاير. وحين دندن طارق عبد المجيد مخرتْ ذاكرتها أودية الماضي. تسلل صوت رفيق الصِّبا من بين الأمواج المتلاطمة:

"ناتاشا اركضي معي، شجرة البلوط قريبة من هنا. هل تذكرين الشتاء الماضي، الأيام الجميلة وشجرة البلوط وسط الثلوج."

ظعنتْ بذاكرتها إلى تلك اللحظة الراعشة حين انطلقتْ صافـرات الإنذار وعلى وجنتيها رفيف قبلة لم تكتمل. تراقصتْ بخيالها لحظات قديمة، يوم ركض ساشا صوب شجرة البلوط ينادي:

"ناتاشا هل ستحضرين الشتاء القادم؟"

وسط المروج الخضراء هفهفتْ خصلاتها الذهبية. وحول وردة ندية دارتْ خطواتها، داعبتها بأناملها، قبلتها وضحكتْ، ثم ترنمتْ بالعشق والسنابل النضيرة. تموَّجت وسط نسمات الخضرة اليانعة، وحولها الفراشات والشذى. فوق غمام، من فوق غمام، ندية الوجدان والمشاعر، أبصرتْ ساشا بهي الطلعة، يسبح في بحيرة الأحلام. ركضتْ إليه فاحتواهما الغمام، وتسللتْ الألحان إلى مفاصل الأصيل. سطعتْ الشمس في بهاء الصيف فانداحت نبراتها إلى المدى: "ساشا، هل نُدْرِكُ يوما أحلامنا العصية؟" فأجابها الصدى: "قد ندرك أحلاما، ولكن هل تبقى الأيام وفية؟ وهل تُدركْ الأماني؟ قد نُدركها، فهل تظلُّ نقية؟"

انتزعها صوت طارق عبد المجيد من تداعياتها حين قال:

"أنتِ عذبة، والأكثر رشاقة فيمنْ عرفتْ."

بعد لحظات من الصمت قالت ناتاشا بصوت ماكر:

"وهل عرفت كثيرات؟ وماذا تعني لديك المعرفة؟ هل مجرد اللقاء والحوار معرفة. أم أنَّ هناك درجات أعمق من التواصل الإنساني تمكننا من معرفة الآخر؟"

"أحيانا مجرد الرؤية قد تُعطي انطباعا صادقا."

"الانطباع لا يكفي ولا يصلح كقاعدة، المعرفة تدرك في مجرى الممارسة العملية."

عادت ناتاشا تومانوفا إلى سكن الطلاب. مَرْوحَتْ داخل حجرتها تغازل الأشجان وتحلم ربما بغد جميل. حين خطرت بذهنها فكرة، توقفت لحظات، ثم شرعتْ تفتشُ في خزانتها حتى وجدت ألبوم الصور. حين جلست إلى الطاولة كان ذهنها محايدا، ثم بدأتْ في تقليب الصفحات. توقفتْ عند صورة جدها لأمها الذي كان يافعا عندما اندلعت الثورة الروسية. نشأ يتيما، مات والده في ساحة القصر:

في ذلك النهار الحزين، سارت حشود الفلاحين الأقنان ليقدموا شكوى للقيصر ضد ملاك الأراضي، ظنا منهم إنَّ القيصر سينظر بعين العطف لشكواهم التي بدتْ لهم واضحة كشمس الصيف. لكن جنود القيصر أمطروهم رصاصا، فتكدستْ ساحة القصر بالجثث والدماء. ارتحل من الريف إلى المدينة مع والدته وأخيه الأصغر بعدما فقدوا عائلهم. كانت أمه تجلس قريبا من كنيسة صغيرة، تستجدي العابرين، بينما أخوه الأصغر على حجرها. انطلق إلى الحواري والدروب بحثا عن لقمة عيش. وجد عملا في مخبز صغير، يكنس وينظف ويعود آخر النهار بقطع من الخبز. وحين داهمتهم طلائع الشتاء، تعثَّرتْ خطواتهم هائمين وسط الحواري. تبدأ محاولاتهم منذ الصباح. يجوبون الطرقات بحثا عن ملاذ من البرد القارس المهلك. تحت المطر كانت الأم تنتحب في صمت وتداري عنهما دموعها. احتموا بسقيفة خشبية والسماء تمطر مدرارا. غطتهم الأم بجسدها ورمتْ فوقهم الأسمال المبلولة. صباحا تكوم مع أخيه بحضن الأم، يرتجفان من البرد، والجوع. عَبَرَ أمامهم رجل، خيل إليَّه وقتها إنه لم يلحظهم، لكنه عاد بعد قليل ودخل المنزل المجاور. فقال في نفسه: "هل سيخرج هذه المرة ليأمرنا بمغادرة المكان؟" عاد الرجل وعلى وجهه ابتسامة. سأل الأم إذا كانت ترغب في العمل؟ أحنتْ الأم رأسها، فقال لها: "أنا أعمل في هذا المنزل منذ سنوات طويلة." الخادمة خرجت منذ يومين ولم تعد للعمل. سيجرب السيد خدمتك أولا. هيا أدخلي إلى كوخ الخدم، اغتسلي وبدلي ملابسك قبل أنْ نخبر السيد بشأنك."

أبصارهما زائغة. تبعا أمهما إلى عالم جديد. حين تزوَّج كبيرُ الخدم من أمه، كبتَ تذمره وظلَّ يساعدها في أعمال النظافة والترتيب. وعندما اشتدَّ ساعده ألحقه صاحب المنزل بمعمل للصابون. هناك سمع لأول مرة بالأفكار الماركسية. كان انحيازه إليها تلقائيا، أملا في الانعتاق من ذل الفقر، والمهانة. وحين تقدَّم بطلب لنيل عضوية الحزب، لم يقبلوا طلبه لصغر سنه، ولكنه ظلَّ وفيا للمبادئ التي آمن بها، حتى تمَّ قبوله في صفوف الحزب البلشفي، قبل شهور من اندلاع الثورة.

اندحرتْ الجيوش الموالية للقيصر بعد حرب أهلية طاحنة. انتصر الجيش الأحمر وبدأ عهد جديد. صدر مرسوم الأرض والسلام فآلت جميع الأراضي الزراعية لملكية الدولة، وتحرر الفلاحون الأقنان من ذل العمل تحت رحمة الكولاك، ملاك الأراضي. قبل الثورة كان الفلاح الروسي مجبرا على العمل مع سيد واحد، لأنه إذا ترك العمل مع صاحب الأرض فلن يجد عملا في أرض أخرى، ومصيره الفقر والعوز المميت. كانت الأرض تباع بِمَنْ عليها من فلاحين. تحرر الجميع وبدأ عهد جديد، هكذا آمنتْ الغالبية من الكادحين بغد أفضل، وامتلأت الصدور بهمة عالية، وأمل كبير.

عضو الحزب اليافع شارك في مد خطوط السكك الحديد غرب الأورال. كانوا يعملون نهارا ويدرسون ليلا. تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. كان الطموح كبيرا والهمم عالية. بعد خمس سنوات كانت خطوط السكك الحديدية تجوب كل البلاد السوفيتية، والكهرباء في كل مكان. وأصبح من حق الجميع التعليم على حساب الدولة. أنجبت زوجته الطفل الأول، أسمياه فلاديمير على قائد الثورة. كانت حماسة الثورة الأولى قد خبتْ، وتصارع الرفاق فيما بينهم، سجنوا وقتلوا. زحف الخوف إلى الصدور مكان الأمل، لكن عجلة التقدم واصلتْ مسيرها رغم العقبات.

وحين نشبت الحرب العالمية الثانية اعتقدوا بأنهم بعيدون عنها، فهي حرب المعسكر الرأسمالي والصراع من أجل الموارد والأسواق. هكذا أعلن قادتهم وصدقوهم، ولم تلبث أنْ قصفت الطائرات عمق الأراضي السوفيتية. احتلت الجيوش النازية الزاحفة أوديسا وخاركوف، واقتربت من العاصمة موسكو. ثم زحفت وطوقت لينينغراد. تسعمائة يوم وليلة، حصار طويل مرير. قتال شرس خاضه المدافعون عن المدينة المحاصرة.

مع بداية الحصار سار توزيع المواد الغذائية بانتظام. ومع استمرار الحصار والقصف، مات عدد كبير من سكان المدينة. أكل المواطنون بقايا الخبز والقطط، لكن جذوة الأمل ظلَّتْ مشتعلة في الصدور. بعد عامين من الحصار كان الشتاء قاسيا، لم تشهده المنطقة منذ عشرات السنين، كما قالت عجائز النسوة اللائي صمدن على قيد الحياة، رغم الجوع والبرد والخوف. كانت قسوةُ البرد، والزمهرير الحارق، والانتظار المقيت، قد أنهكَ جنود الاحتلال، بينما ألهبَ حماس المدافعين عن المدينة وصول أنباء عن اندحار جنود النازيين في معركة فولغاغراد. كان الصمود حتميا، حتى ولو هلك الجميع.

استنفرتْ المدينة تاريخها النضالي العريق، وصمدتْ حتى انقشع الخطر المميت من أفق المدينة. ثم بدأ زحف الجيوش السوفيتية حتى دمروا الرايخ الثالث في برلين.

= = =

(1) الشاعر السوداني عبد الله شابو. ديوان بعنوان أغنية لإنسان القرن الحادي والعشرين. من مواليد مدينة الكوة في السودان.

D 1 شباط (فبراير) 2009     A عباس علي عبود     C 0 تعليقات