عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عباس علي عبود - السودان

مرافئ السراب (*)


(*) أحد فصول رواية بهذا العنوان. الفصول الأخرى تنشر تباعا في الأعداد القادمة. يمكن الرجوع إلى ثلاثة فصول نشرتا في الأعداد 14 و 23 و 33.

.

اتاشا تومانوفا

شمس آفلة

صهيل جريح

طفل يحبو

فوق بساط الريح.

وحينما تعرّتْ الأشجارُ

من مواسم اللقاح

استقرّ في حشاشة الندى

أحلامُ طفلة

ضفافُ وردة

دوّخها الأريج

بدّدها النواح.

وفي الطريق

على حافة الاحتمال

وفوق ذرى النشيد

أدركهم الوقتُ

والنداء

لا رؤيا

ولا سفوح للبريق.

عباس علي عبودطارق عبد المجيد على قوس الأمنيات يلاحقه طيف عنيد. ناتاشا تومانوفا تسللت إلى وجدانه، حيث يتبرعم العشق، يدندن النشيد خافتا يبوح بالأريج. على ضفاف النيفا ارتشف من أحاديثها العذبة ثملا بما ظنّه طريقا للخلاص.

قالت له: "بدأ الوعي الإنساني من تأمل السماء، هل تعتقد أنه سيعود إليها ليبدأ مرحلة جديدة؟"

فكّر طويلا وكاد أنْ يقول لها: أهل بلادي يغنون: أنت السماءُ بدتْ لنا واستعصمتْ بالبعد عنا.

انتظرت إجابته وهو صامت يتأمل وجنتيها. ها هي قريبة من الروح، بعيدة عن مفازة النزوح. قريبة كزورق يلوح، وتحته تعربد الأمواج والجروح. وكأنه على تلال المستحيل يغرز رماحة في سراب المعاني.

وقالت له: "سيبريا حقول الجليد الشاسعة ألهمت الروس الصبر، والقدرة على قهر الصعاب. هنالك مستودع اللغة النقية، والتقاليد الأصيلة. ومنها استمدوا كينونتهم، وقهروا أعداءهم."

عندما تجمّد جنود نابليون من الصقيع وهم يشعلون النيران، ظلوا يسمعون ليلا الموسيقى تنبعث من التلال المحيطة بموسكو. لملم القائد العظيم بقايا جيوشه واندحر؛ تماما كما تنبأ الطبيب والفلكي نوستراداموس. وقالت له: "ها أنت تراهم منهمكين في شهوات الجسد، لكن الإيمان قابع في صدورهم، طمره الخوف، والقهر الطويل."

في كاتدرائية اساكوفسكي، يقولون إنّ عرافا أبلغ مهندسها بأنه سيموت بعد اكتمال البناء. عمل المهندس لأربعين سنة حتى أنجز تحفة معمارية رائعة، ثم مات ودفن داخلها. مكثا يتحاوران داخل الكنيسة العريقة، ثم صعدا إلى شرفة عالية تطل على المدينة. كانت بطرسبورغ عابقة برطوبة البحر. قصور شامخة ومعمار بديع. نهر النيفا وفروعه المتعددة، الجسور والمعابر.

قالت له: "إنّ هذا الثراء الباذخ شُيّد من كدح الفلاح الروسي، الذي كان رازحا تحت الفقر، والجهل، والاستعباد."

قبيل بداية موسم الثلوج وقفا على شاطئ النيفا. كانت الريح باردة والأمواج تتلاطم حين أشارت إلى مركب في عرض النهر وقالت: "إنها أفرورا المتحف العائم، حيث انطلقتْ منها إشارة الثورة. قذيفة ضربت مخدع القيصر في القصر الشتوي، المطل على نهر النيفا."

بعد الثورة تحول القصر إلى متحف الأرميتاج. تجولا بين طوابقه الأربعة. طارق عبد المجيد على قوس الدهشة اشتعلت بوجدانه أحاسيس شتى. لوحات من عصور مختلفة وبلدان متعددة: ايطاليا، ألمانيا، أسبانيا. توقفا أمام لوحة تكعيبية لبيكاسو فقال لها: "أحب فان غوخ فهل نجد إحدى لوحاته هنا؟". بعد ساعتين غادرا المتحف ولسان حالة يقول: إنهم يبدعون منذ قرون.

عبرا النهر إلى قلعة بتروبافلسكي. جزيرة صغيرة يطلُّ عليها متحف الأرميتاج. وسط الجزيرة شُيّدتْ كنيسة صغيرة، فوقها مسلة ذهبية سامقة. وعلى الضفة سجن رهيب تحول بعد الثورة إلى متحف. كانت الحجرات تختزن رطوبة السنوات، والقهر الطويل. الأسرّة حديدية، وعلى الأبواب كوة صغيرة للمراقبة وتقديم الطعام والشراب. هنا قبع دستويفسكي وحكم عليه بالإعدام.

في ساحة السجن عصبوا عيونهم في انتظار الرصاص، والدم المسفوح. نادى رسول القيصر. استبدل الإعدام بالنفي إلى سيبريا؛ وكان حصاد الروح. وحينما عاد دستويفسكي من المنفي كتب في إحدى رواياته أنّ القهر الطويل ربما دفع الروسي للاعتقاد في الإلحاد. وبعد عشرات السنين تحققت الإشارة الثاقبة. اعتقد الروسي في الماركسية، دافع عنها، ومات من أجلها، وأحدث بها ثورة غيرتْ مجرى التاريخ. وعندما تبدّد وهج الثورة وحماستها الأولى، تصاعد القمع والقسوة، لقهر الإنسان، كي يبني مجتمع العدل والمساواة.

كان الشاعر مايكوفسكي صرخة داوية في نفق مظلم. وكان رحيله الفاجع، دلالة ساطعة، على أفول نظرية الثورة البلشفية، وتطبيقاتها العملية، ولو بعد حين. إنّ الأرض الروسية الشاسعة، والروح العميقة، والصقيع، هزمت النازية حين توغّلت، وبطشت، وقتلت الملايين. وفي مراحل متقدمة من تفسخ النظام السوفيتي، أجبروا سولجنتسين على مغادرة وطنه. وبعد تفكك المنظومة القديمة عاد إليه بعد أكثر من عشرين عاما. ترك وطنه مكبلا بالقيود، وحين عاد إليه كانت مخالب الماضي ما تزال تنهش جسد المجتمع. عاد متسائلا عن سماحة الشعب المسفوحة تحت سنابك الصراع الجديد.

توقف هطول المطر بعد أيام من الغيث المستمر. في حجرتها جلست ناتاشا تومانوفا وبقربها طارق عبد المجيد يقلّب في مجلة علمية. تناولت الجيتار وبدأت تنقّر عليه بأناملها إيقاعات هادئة، ثم نقرت الأوتار. رويدا تراقصت الألحان، وسرت النشوة في طقس اللقاء الهادئ. الشفقة وأشجان ما، وشهوة متحفزة تقود خطواتهما على دروب المحاولة. ناتاشا تومانوفا صهيل عربد بوجدانه، إلا أنّ ذكريات مراوغة كبحت جماحه، فطفق يدندن ألحانا مريرة، مفتون بالرقة، ينزف حنينا من كبد جريح. وقالت في نفسها: إلى أين تسير خطواتنا؟ مستني عميقا أحزانه وصراحته، وحيرة عاصفة تبدو أحيانا في نظراته الساهمة. هل هي مغامرة جديدة في طريقه، ثم يمضي إلى عشق آخر؟ هل اختار التجريب، أم إنها حتمية ما تدفع خطواته دون أنْ يدري ويدري؟ وهل اتخذتهُ جسرا للهروب من أحزاني وذكرياتي. نعم داعب أوتار قلبي، وأنا في حيرة من أمري.

بعينيها براءة الطفولة، وعلى وجنتيها رفيف حزين، بينما الأنامل الرقيقة تداعب الأوتار. تنداح الأنغام، توشوش أذنيه. ضجّت بصدره إيقاعات صاخبة، ثم هدأت خواطره سابحا بخياله إلى ينابيع الأشجان الساحرة. عيناها بحيرات من الشفق الأرجواني، خداها ناعمان، مصقولان كورد شفيف. سرى بأشواقه إلى ذروة الحنين، ثم عاد يتأمل وجهها بفؤاد ولهان. ابتسمت، تململ بوجدانها نبض العناق. نهضت إلى النافذة وأشارت إليه بعينيها. تبعها وخطواته هائمة في صحارى الاشتياق. داعب خصلات شعرها يتأملان الغيوم، وبقايا نهار غارب. تذكّر ليلة في البلدة، حين سطع القمر كاملا وتحته خيوط سوداء، فأبصر على سطحه وجها مرمريا، سرعان ما تحول إلى فتاة تحلب بقرة.

داعبتْ ناتاشا صدره برفق قائلة: "هل عدت مرة أخرى إلى السرحان؟"

أجابها متسائلا: "هل تؤمنين بالصدفة؟"

فاجأها السؤال. وبعد تفكير أجابتْ وبعينيها قلق عابر: "هنالك احتمال."

"لم أفهم."

"هنالك جبروت ما، ربما. لستُ على يقين، ولكن هنالك احتمال."

استغرق في صمت هش، وحين بدأت قشعريرة تسري تحت جلده قال: "أحيانا ينتابني شعور بأنّ الحتمية كاملة ولا مكان للصدفة. وأحيانا أخرى يلازمني إحساس مرير بعبث الوجود، غض النظر عن الحتمية واحتمالات الصدف."

"الحتمية المطلقة لا يمكن أنْ تتحقق. العبث موجود، عايشه بعضهم حتى الرمق الأخير، ولكن قد يُضْمر العبث معنى ما."

"وعندها لا يصبح عبثا."

"ربما."

انزلق حديثهما إلى همس شجي يرتاد آفاق النشوة، بينما الأشواق نابضة من غور الوجدان. تناولت الجيتار وبدأت العزف وأناملها على صهوة الشرود. نغم حزين رفرف بصدر جامح بالشهوة. رنا إلى صدرها كطفل شريد هبط من سماء الغيوم، والأسئلة الكامنة في وريد الاشتعال. نغم شفيف عطّر طقس الانتماء. منصتا لصوتها الرقيق انغمس لبرهة في أغوار النفس، بينما أوتار الجيتار ترسم على شفتيه أنغاما حائرة.

ثمّة أغنيات تهوّم فوق أودية النزوح. الذكريات صرعى، والخيال سادر في سراديب الغواية. عادت الأنامل الساحرة تداعب الأوتار، فتنسكب الألحان الشجية. من بحيرات عينيها أشرقت النشوة سمتا فوق ذرى الجمال. هل ثمة احتمال؟

ذبلت أوراق الأشجار، اصفرّت، تساقطت في الحدائق والساحات. انهمر المطر غزيرا، ولم يلبث أنْ حلّ الشتاء. ريح قاسية هبّت من الخليج الفنلندي والسماء رمادية. سيقان الأشجار سوداء وأغصانها يابسة، على حوافها البياض. كان مندوف الثلج يتهاوى خلف زجاج النافذة التي انحسرت ستائرها الفاقعة الزرقة.

داخل حجرته بالطابق التاسع في مساكن جامعة بطرسبورغ، جلس طارق عبد المجيد مشتت الخواطر، تراوده أطياف الحنين. مثقل الجبين بالأسى، يطارد خياله أسراب الذكريات. أدركه يقين هش، ثم أبحر في السراب. ناتاشا تومانوفا حيّرته وأوراق الخريف تتساقط مبشرة بمواسم الصقيع.

حين غابت عنه لأسابيع، طرق حجرتها مرارا بلا جدوى. انتظرها وسط القلق والتخمين. طرق باب حجرتها ذات مساء، وتوقع أنْ يعود بلا إجابة، لكنها أطلت مبتسمة. عانقها كأنهما افترقا لسنوات طويلة. كرر الأسئلة عن أحوالها ولماذا اختفت دون أنْ تقول شيئا. وضعت الشاي على المنضدة، وجلست هادئة ثم قالت: "كنتُ في المستشفى."

"حمدا لله على السلامة."

"خضعتُ لفحوصات دقيقة." بعد صمت تابعت بنبرة بسيطة: "أنا مصابة بسرطان الدم." حين لاحظت توتره وزوغان عينيه أضافت: "الأمر ليس سهلا، لكنه واقع. الأطباء قالوا إنّ العلاج ممكن."

ترقرقت كلماتها عميقا إلى روحه. عاد بذاكرته إلى البلدة، ثم غرق في بحر متلاطم من الأحزان. اختلستْ نظرة إلى عينيه ثم قالت:

"لا تقلق، ركز جهودك في الدراسة، فأهلك في انتظارك."

"لم أفكر قبلا في هوية علاقتي بك، ولكني الآن احتاجك وأخاف عليك."

تبعثرت كلماته فحاولت العبور بالحوار إلى موضوع آخر. تسلل إلى فؤاده الحزين طيف حائر؛ حدّق إلى فراغ موحش. زارها بعد ذلك مرارا، كانت تستقبله بالترحاب لكنها انقطعت عن زيارته. في المرة الأخيرة، زارها مع حلول الظلام، نازف المشاعر والثلوج تتساقط. امتدت جلستهما حتى منتصف الليل. وعندما همّ بوداعها قالت له: "سأسافر بعد غد إلى موسكو."

ارتبك، نكّس رأسه ثم قال وفي نبرته رجاء وشوق وحنين: "ومتى تعودين؟"

تأملت وجهه المزدحم بالأسئلة ثم قالت بصوت حزين: "لست أدري، ربما أواصل العلاج هناك."

ويوم تحرّك القطار إلى موسكو، لوّحت بكفها عبر زجاج النافذة وابتسامة كشفت عن أسنانها وبراءتها. أنصت لإيقاع العجلات على القضبان الحديدية. تسربل بالشجن، ثم دندنت بصدره هواجس الرحيل. وقال في نفسه: هل سنلتقي مرة أخرى؟

D 1 آذار (مارس) 2009     A عباس علي عبود     C 0 تعليقات