أمل النعيمي - الأردن
رذيلة الاعتراف
أمي: مع أنهم يقولون إن الاعتراف فضيلة، ما سأهديه لك في عيدك يندس تحت جلدي كالعلق الذي يمتص الصديد، وما دام فيه راحتي وربما شفائي فاني أطمع في غفرانك مع أنني ربما لن أعرف أبدا إن كنت ستفعلين. أنت في عالمك الآخر الذي يلتفع بالأسرار نأيت منذ زمن بعيد.
أمي: الكارثة لا تكمن في أنك عندما كنت نزيلة عالمنا يلفنا جدار منزل واحد ودفتر عائلة. ولم أعرف أن لك بين الأعياد عيدا. الكارثة ليست في أنني لا أستطيع وضع باقة ورد فوق قبرك البعيد. الكارثة كانت عندما عانق اليراع راحتي وطافت الدموع بمقلتي أحسست كلماتي باردة كالجليد.
أمي: كانوا يقولون إنني صورتك الصغيرة وكنت أستشيط غضبا وأكتم غيضي. يا للعار! كنت بهية كالبدر، متوردة كالربيع، ناعمة كقطر الندى، ضعيفة كجناح فراشة، ربما كان هذا أكثر ما أغاظني فيك، ضعفك الذي ولد من رحم عواطف بالغة السخاء كنت تغدقينها بلا حساب، كان يذبح كرامتي أنا التي طالما تباهت بصلابتها ورباطة جأشها، ربما هذا ما جعلني كلما طالعت وجهي في المرآة هالني قبحه لأسرع وأرتدي قناع الكبرياء.
أمي: حدث وغرقت في حب حتى أذني، سقط القناع، أصبحت كما كنت: جميلة هشة كخيط عنكبوت. حينها تمنيت أحضانك التي أضحت رفاة كأيامي، وتذكرت كم وددت أن تلفني يوما وأبيت.
أحببتني يا أمي كخرافة سقوط الأفق ورقصة الأشباح، لكنك لم تعلميني كيف أشد قبضتي لو تناثر حبي كرمل فوق ساحل بحر ميت، فكان أن مت ولم يمت، وبقيت أرسم فوق ذاك الرمل أطلالك وأطلاله.
أمي: أتذكرين أيامنا الثلاثة الأخيرة قبل الرحيل؟ اقتحمت غرفتي المحصنة بالصمت والوحدة والغموض، دموعك تغرقني وأنت تعانقينني وتعاتبينني:
ما الذي يبعدك عني هكذا يا ابنتي؟ ببرود قاتل دسست في روحك قبل يدك ورقة كتبت لك فيها
أمي:
يا من تناديني زهرتي الذهبية
مسطحة هي أرضك، عندي أنا كروية
أهديتني أمي للدنا دمية ورقية
وغدا تخرجني الحياة من مخبرها
تجربة منسية.
أمي: نسيتني نفسي قبل أن تنساني الحياة، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الخروج من مخبرها وكأنني لم أكن فيها. ليل الضمير يقض مضجعي ويطرد الوسن، كلما تذكرت أنني لم أجاذبك أطراف الحديث في تلك الأيام الثلاثة الملعونة قبل الوداع. أتعرفين؟ لقد شطبت الآن كل مفردات الكبرياء ومرادفاته من قاموس ما تبقى من عمر خوفا من رحيل آخر لأعزاء حتى لو بادروني بالقطيعة والعداء. لم أعد مستعدة أبدا أن تفاجئني صحف الصباح بسفر مجهول لا توجد في خرائطه وسائل اتصال لاعتذار أو عودة وصال.
أمي: لقد أصبح بإمكاني الآن البكاء على مرأى ومسمع الجميع، أدركت أن الدموع ليست ضعفا إذا كانت ستزيل الغبار عن أرواحنا وتمحو الصدأ من مشاعرنا.
أمي: أطلب عفوك إذا كنت قد استبحت ذكراك على الملأ. صدقيني، سوف يحبك من لا يعرفك وقد ينفر مني من يعرفني. ويوما ما عندما نلتقي من جديد سأعترف لك أن أرضك المسطحة أفضل من أرضي الكروية. هناك يمكن أن نرسم كل شيء بوضوح. الخط المستقيم يبدأ بنقطة معروفة وينتهي بأخرى معروفة، والخطان المتوازيان لا يمكن أن يلتقيا، أما فوق أرضي فأنا وسواي ندور في حلقة مفرغة لا فكاك منها. نبدأ بنقطة وننتهي بذات النقطة ونرهق كل ما فينا بلا جدوى. هناك المرايا تظهر الملامح بوضوح، وهنا تظهرها وهي تتمطى وتتكيف وفقا للظروف وتتقلب فيها حتى الكلمات والحروف.
ربما يأتي اعترافي هذا متأخرا لكنني اعتدت فوات الأوان، وحين تصل محطتي الأخيرة أتمنى أن تكوني بانتظاري لأعانق فيك ماضيا جاحدا رغما عنك وعني، وأناسا أبى قطار العمر أن يتوقف عندهم لأرتشف منهم نظرة لقاء أخير، وحينها سأقدم لك مرة أخرى قصاصة ورق كتبت فيها هذه الكلمات، هديتي اليتيمة الوحيدة التي حاولت جاهدة أن أجمع فيها كل هذا الشتات الذي هو أنا.
وسوف تلملميني أخيرا، أمي.
◄ أمل النعيمي
▼ موضوعاتي