ظـــلال عدنان - الأردن
نصان: العقد + الخريف النهم
العقد
"إنه عقدتي وحرزي،" قالها وقد ترقرقت دمعات في عينين أضناهما طول بحث عما وراء الأكمات. زفرات توالت وهو يتحسس حبيبات عقده:
"أرتاح له، أشعر بالسكينة معه حينما يطوق عنقي."
لحظات صمت وخيالات ورؤى تراقصت أمامه، عبثت به وبحلمه. أزاحها بحركات من يده لعلها تمحو خربشات في الذاكرة. آه من ذاكرة تلاصقك. تبعثرك. تشتتك. تنثرك! سمع صدى صوت حلمه وهي تقول له:
"أنسيتني؟ أم لعلك ستنساني يوما؟"
نبضه تعالى وهو يهمس لها: "من يخربش صورة في خياله لا توجد في كل الدنيا ممحاة تستطيع أن تمحوها. أنت حلم خربشته منذ أمد بعيد، حلم أحببت أن أعيشه، وأحببت أن يتكرر باستمرار. أنت أعدت لي الحلم، أعدت إليّ شبابي، جعلت دماء الحياة السعيدة تعود لي. أنت صورة أحب أن أرسمها دائما. أنت النبض المتسارع في شراييني. أنت الأنفاس التي لا أستغني عنها. أنت مدادي الذي أكتب به أغنيات عشقي، وأسجل بها أجمل لحظات حياتي."
ومع كل كلمة كان ينسجها لها، كانت تتناثر حبيبات عقده، تتلاعب بها ريح خريف أصفر. وتلونت دنياه ربيعا ونرجسا. وذات فجر لم يقبل ثغرها، وجرى يلملم عِقده وعُقده، مبتعدا عن حلم خربشه، ليخط بدموع الشتاء في صخور الروح جراحاته:
"إنه عقدتي وحرزي. أرتاح له. أشعر معه بالسكينة. وربما لو لم ألبسه لكنت الآن في بيت الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة. أشعر أنه يعوضني جزءا كبيراَ مما أفتقده."
وتلاشى الحلم في حبيبات عقده.
::
الخريف النهم
عند مدخل الجامعة (*) يمتد شارع طويل تتزاحم فيه المحال والمجمعات التجارية: هنا مكتبة، مطعم، "كوفي شوب"، مواد تجميل"، "اكسسوارات"، خياط، أزياء. تأخذكَ الأضواء في عتمة الليل، فتراقبُ تراقصها على زجاج تلك المحال.
على الجانب الآخر رأيتُه طفلا يرتجف. لم يتجاوز عمره سنوات أربع، ثيابه تنبئ عن حال سيئة، ووضع مزر. كان يلاحق المارة بعلبة علكة، ويردد: "علكة بشلن" (*).
يمسك بأطراف أثوابهم فينهرونه، يقذفونه بحركة سريعة، فيتهاوى أرضا. ينهض، يلاحق آخر، يمازحه. يأخذ منه علكة، وبسماجة يقول له: "الحقني"، ويجري مبتعدا. ويغرق الطفل في بكائه.
يرقبها قادمة فيجري نحوها، يحضنها، فتبعده بقسوة لم أر لها مثيلا. يتعلق بثوبها فتسارعه بلطمة مدوية وتبتعد. لم ييأس. يستمر في ملاحقتها، ودمعه نار تحرق قلب من لا قلب له، وقلبها أقسى من الصوان. سألتْه عن النقود. مد يده ببضعة دراهم. دسّتها في جيبها، وأمرتْه أن يتابع عمله. بكى، انتحب، استسلم حينما رآها تبتعد، تاركة طفولته ملقاة على الطرقات.
وطفقتُ أنا أبحث عن قلبي أين تاه في دنيا الذئاب.
= = =
(*) الجامعة الأردنية في عمان. مدخلها على طريق رئيسي يربط عمان بشمال الأردن.
(*): قطعة نقدية معدنية تساوي 1/20 من الدينار الأردني. الكلمة في الأصل إنجليزية.
◄ ظلال عدنان
▼ موضوعاتي