ربا الناصر - الأردن
ألحان عند معبر رفح
ملف: غزة في القلب
تمهيد: في كل مرة يظهر فيها قوس قزح من ذلك المعبر البعيد تتراءى أمامي صورة ذلك الطفل الباسم،ي قف عند نهاية القوس مرددا أنشودة ألفتها ملائكة السماء بحبها ورحمتها، فأتساءل في حيرة" إلي أي أرض تنتمي أيها الطفل الباسم؟"
عندما توقف هطول المطر، وفاحت رائحة الحشائش المبتلة، انقشعت الغيوم سريعا عن صفحة السماء الواسعة كاشفة عن ابتسامة باهتة كانت واضحة على شمس ذلك اليوم، وبعدئذ ظهر قوس قزح من بعيد تزداد ألوان طيفه وضوحا كلما مالت الشمس نحو منتصف السماء، امتد القوس حتى توقف أمامي وظهر طفل باسم يحمل شمعة، نظر إلي ثم ابتسم كابتسامة الأزهار في الصباح الباكر وأمرني قائلا: "دعني أصطحبك إلى تلك المدينة الموجودة عند نهاية هذا القوس، فهناك تقع أسطورة لم تغير ملامحها كرور الأيام، أسطورة يتجدد ويتواصل أبطالها عبر الزمن، دعني أعرفك على غزة هاشم، غزة الشموخ والكبرياء".
جلست بالقرب من الطفل وروحي مقفرة أما قلبي ارتشح فيه شوق غريب في معرفة هذه المدينة وسر أهلها المستضعفين ظاهرا، الصامدين في قلوبهم باطنا، وبمجرد نفخه البوق بدأت الرحلة، يحملنا قوس قزح من بقعة أرض إلى أخرى، كنت أستشعر جمال ألوانه واختلاطها بلون واحد هو الأبيض، شعار السلام المنشود، أما حرارة طيفه فكانت كفيلة بإشعال نار الحماسة في المضي قدما تجاه مدينة يصعد منها كل يوم أرواح شهداء سرعان ما تتحول إلى نجوم سيارة تزيد السماء شموخا وكبرياء بوجودهم عليها.
كان الطفل لا يزال ينشد أنشودته بفرح وبألق أمسيات مبتلة بالمطر، وفجأة ظهر من على جانبي القوس مجموعة أخرى من الأطفال يحلقون بالقرب منا، وعندما اقتربنا من المدينة، ابتدأ جمع الأطفال بالتفرق والتحليق بعيدا عنا وبقي الطفل الباسم وحده معي ولحن أنشودته لازال فمه الصغير يديره بإتقان، وكلما اقتربنا أكثر من الوصول إلى المدينة كلما ازداد لحنه علوا كما يزداد الدخان الأسود الذي يلف المدينة كوشاح شدة وظلمة حالكة في حينها كان يوحي بجو خريفي ينذر بذبول واستسلام الأمل فيه.
كانت المدينة تقع تحتنا، حاولنا الدنو أكثر فأكثر حتى يتسنى لنا رؤية أحداث حياة سكانها، فنحن نراهم ونسجل حقائق أيامهم، نرى أحداث حياتهم الصعبة من خلال شاشات تلفاز ونتخيل مشاهد الشح الذي يعانون منه من موجات المذياع وهم بدورهم لا يروننا ويكتفون فقط أن يكونوا أبطال أحداثهم وصانعيها. بدأ الدخان الأسود بالانقشاع تدريجيا وتراءت أمامنا صور عادية من الممكن أن تتكرر في كل يوم. شاهدنا ساحة مكتظة بالمارة كأنهم جيش من النمل يخطون بنشاط رغم كآبة الجو المخيم فوق رؤوسهم إلا أن صياح البائعين معلنين عن بضاعتهم في محلاتهم المسقوفة من الكرتون أو (الزينكو) كان يدوي عاليا محاولا كسر الصمت، فهم شعب يحب الحياة ويريدها، يريد أن يحلم كغيره من الشعوب في صنع المجد لنفسه وتدوين اسمه في سجل التاريخ، يريد الاستمتاع في معاني كلمة واحدة ألا وهي الحرية.
مر الوقت كومض الضوء والساحة لا تزال تعج بالسائرين والشمس قاربت على الزوال لكن بقايا من الحياة لازالت موجودة، تسري بين قلوب الناس، تحثهم على البقاء. أما أنا فلازلت أراقب المارة والطفل لازال يدندن لحنه بصوت هامس كأنه ضحكة ملاك يشاركني التحديق في مشية هؤلاء الناس حتى لفت انتباهنا مشهد سير أم وابنتها إلى جانبها، كان أكثر المشاهد أثرا في قلبي، فالابنة كانت تحوم حول أمها كفراشة رقيقة، فراشة تفتن عقل كل من ينظر إليها لكنها ورغم جمالها كانت فراشة بلا أجنحة يعينها على التحليق رغبتها المتوحشة في البقاء فكانت هذه الطفلة مثلها تحاول البقاء رغم طفولتها البائسة ، تحاول رسم ابتسامة قد لا تستطيع رسمها فيما بعد، لذا تحاول جاهدة الاستمتاع بكل لحظة تحظى عليها وتملكها.
كنت أرقبها أنا والطفل الصامت هذه المرة، بعين محبة ومتشوقة لتدوين كل لحظة ورصدها للعالم بأسره قبل أن تتحول إلى ذكرى تضيع معها الماديات وتتبعثر. ولكن كانت عين أخرى ترقب هذه الفتاة وتغيظها لحظة السعادة التي تعيشها مع أمها، عين راقبتها بشغف لإيجاد الدمار وخلق الحروب. عين وجدت لسلب هذه الطفلة ابتسامتها المسروقة في لحظة سعيدة ذات عمر يماثل عمر الورود في فصل الشتاء. كانت عين بندقية جندي يختبئ في زاوية ضيقة، يصوب تجاهها.
ومع أول طلقة رصاص دوى صوتها في السماء بدأت الحرب وتشابكت الجموع. كل شيء تغير فجأة في المدينة ولم يبق سوى الصراع على الحياة والتمسك في الأرض ناشدة كل المتقاتلين.
التبس وجهي الغضب جراء ما أرى فلم يكن بمقدرتي فعل شيء سوى التفرج والبحث عن الرحمة في تجاعيد البرق وغضب الأمطار المنحبسة في إنهاء الحرب وتبديد ثورة الغضب. وبعد لحظات لمع البرق وهطلت الأمطار وتبددت الجموع وتفرقت وعاد الهدوء يسود المكان من جديد، كل شيء كان مصغيا لهطول المطر ومرحبا به، كان صدى ارتطام حباته بحديد آليات الحرب أشبه بزعيق وحش متمرد أما ارتطامه بجثث القتلى كان أشبه بنقر دفوف جنازة مهيبة. وبعد مرور وقت على نزول الأمطار فاحت رائحة الطين والدم عاليا وعاد الطفل إلى تلحين نشيده بقوة وحماس، منضمة إليه جموع أخرى من الأطفال تتقدمهم تلك الطفلة التي سارت مع أمها للحظات مضت سريعا.
نظر الطفل نحوي ووضع بين يدي شمعته المضاءة قبل أن ينضم إلى جموع الأطفال المحلقة عاليا نحو الغيوم، تركني وحدي مع شمعنه المضاءة، تركني أرجع إلى حيث ابتدأت الرحلة معه، فأعود والشمعة لازالت تضيء فأضعها قرب نافذتي التي أراقب منها كل يوم ظهور قوس قزح من بين الجبال وفي نهايته يقف الطفل الباسم يغني أغنيته البريئة وحوله جميع الأطفال الأبرياء مثله يحلقون عاليا، عاليا لكن ألحانهم بقيت عالقة عند ذلك المعبر يحتجزها جداره المنيع كذكريات الطفولة الماضية.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي