رحيل الروائي السوداني الطيب صالح
انتقل إلى رحمته تعالى الروائي السوداني الشهير، الطيب صالح، يوم الأربعاء، الثامن عشر من شهر شباط/فبراير الماضي عن عمر يناهز ثمانين عاما. وأشهر مؤلفات الطيب صالح روايته موسم الهجرة إلى الشمال. له مؤلفات أخرى تشمل
=1= عرس الزين.
=2= مريود.
=3= دومة ود حامد.
أدناه مقطع من مطلع رواية موسم الهجرة إلى الشمال، وهو نقلا عن الطبعة 14 الصادرة عام 1987 عن دار العودة اللبنانية.
عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة. سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل.
سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم. ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم. فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمانا في بلاد "تموت من البرد حيتانها."
تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة. قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب أول وهلة رأيتهم، لكن الضباب راح. واستيقظت ثاني يوم وصولي في فراشي الذي أعرف، في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها. وأرخيت أذني للريح. ذاك لعمري صوت أعرفه، له في بلدنا وشوشة مرحة. صوت الريح وهي تمر بالنخيل غيره وهي تمر بحقول القمح.
وسمعت هديل القمري، ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير. أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف.
وجاءت أمي تحمل الشاي، وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء. وجاءت أختي، وجاء أخواي، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة. نعم، الحياة الطيبة، والدنيا كحالها لم تتغير.
فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه. سألتهم عنه، ووصفته لهم: رجل ربعة القامة، في نحو الخمسين، أو يزيد قليلا. شعر رأسه كثيف مبيض، ليست له لحية، وشاربه أصغر قليلا من شوارب الرجال في البلد. رجل وسيم.
وقال أبي: "هذا مصطفى."
"مصطفى من؟ هل هو أحد المغتربين من أبناء البلد وعاد؟"
وقال أبي: "إن مصطفى ليس من أهل البلد، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام. اشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج بنت محمود. رجل في حاله. لا يعلمون عنه الكثير."
لا أعلم تماما ماذا أثار فضولي، لكنني تذكرت أنه يوم وصولي كان صامتا. كل أحد سألني وسألته. سألوني عن أوروبا. هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا؟ هل المعيشة غالية أم رخيصة؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء؟ يقولون إن النساء سافرات، يرقصن علانية مع الرجال. وسألني ود الريس:
"هل صحيح أنهم لا يتزوجون ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام؟"
أسئلة كثيرة رددت عليها حسب علمي. دهشوا حين قلت لهم إن الأوروبيين، إذا استثنينا فوارق ضئيلة، مثلنا تماما، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول، ولهم أخلاق حسنة، وهم عموما قوم طيبون.
وسألني محجوب: "هل بينهم مزارعون؟"
وقلت له: "نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء. منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم، مثلنا تماما."
وآثرت ألا أقول بقية ما خطر على بالي: مثلنا تماما. يولدون ويموتون، وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق وبعضها يخيب. يخافون من المجهول وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد. فيهم أقوياء، وبينهم مستضعفون، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق، وبعضهم حرمته الحياة. لكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء.
لم اقل لمحجوب هذا. وليتني قلت، فقد كان ذكيا. خفت، من غروري، ألا يفهم.
وقالت بنت مجذوب ضاحكة: "خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء."
لكن مصطفى لم يقل شيئا. ظل يستمع في صمت. يبتسم أحيانا، ابتسامة أذكر الآن أنها كانت غامضة، مثل شخص يحدث نفسه.
= = =
ملخص الرواية: مصطفى المشار له أعلاه هو مصطفى سعيد، صاحب الشخصية التي تدور أحداث الرواية حولها. هو شخص جاء إلى بريطانيا للدراسة فيها. يقيم علاقة مع بريطانية بيضاء ويقتلها، ويحاكم ثم يعود في النهاية إلى السودان.
غلاف الطبعة 13 من الرواية
- غلاف موسم الهجرة إلى الشمال
◄ عود الند: أخبار
▼ موضوعاتي