عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 6: 60-71 » العدد 67: 2012/01 » الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي

د. حبيب بوزوادة - الجزائر

الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي


الإبداع والحقيقة في الأدب الكولونيالي

قراءة في نص "رحلة إلى الجزائر" لـ(غي دو موباسان)[1]

د. حبيب بوزوادة، جامعة معسكر-الجزائر

توطئة:

حبيب بوزوادةيعتبر كتاب "رحلة إلى الجزائر-إلى بلاد الشمس" بقلم الكاتب الفرنسي غي دو موباسان (Guy de Maupassant) واحدا من أهم المؤلّفات التي كتبها الفرنسيون عن الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية، لعدّة أسباب؛ منها المنزلة المرموقة لكاتبها في الأوساط الأدبية الفرنسية، واشتغاله الجيّد على اللغة، باعتبارها المكوّن الأساسي الذي انبنت عليه العملية السردية، إلى جانب أحداث الرحلة وتفصيلاتها الموضوعية، التي تعكس رؤية نخبة المجتمع الفرنسي إلى الجزائر، وإلى الإنسان الجزائري تحديدا.

كما تأتي أهميّة هذا النص من كونه يطرح أفكاره ورؤيته للآخر عبر نافذة الرحلة، وهي حركة تقوم داخل فضاء زمكاني حقيقي، عبر شخوص ومسارات لها مرجعيتها الواقعية، وهو ما يعطي لهذا الجنس الأدبي خصوصيته المميّزة له عن سائر أشكال الكتابة السردية كالرواية والقصة وغيرهما، ممّا يقوم على فكرة الاحتمال "التي تقود إلى مشروعية المتخيّل وحقّه في الوجود الأدبي المفارقِ بطبيعته للوجود المادي التاريخي"[2]، فالنص الرحلي ليس نصّا أدبيا منغلقا على عناصر الكتابة السردية كاللغة والخيال، ولكنه بالإضافة إلى ذلك نص تسجيلي يمتح من مسيرة الكاتب ومشاهداته، ويعيد صياغتها ضمن إطار فني له جاذبيته.

عتبات الرحلة:

Guy de Maupassantفي نص "رحلة إلى الجزائر-إلى بلاد الشمس"، قدّم موباسان رؤيته إلى الآخر الجزائري ثقافتِه ونفسيتِه وتفكيرِه وتاريخِه.. مطلا عبر عنوان بسيط لكنّه ذو دلالة مكثفة، وله وظيفته الإغرائية (fonction séductive)، نظرا لقدرته على إغواء القارئ واجتذابه نحو النص، ووضعه أمام فضاء مجهول وأفق لا محدود في نفس الوقت. فالسارد أثبت مقدرته الفنية ومهارته الفائقة في الدعاية لكتابه من خلال التوظيف الجيّد لتقنية العنونة (titrologie)، بتقسيم العنوان إلى شطرين لكلّ منهما دلالته الخاصة؛ فالشطر الأول: رحلة إلى الجزائر يحمل دلالة تعيينية (dénotative) مشيرا إلى الجزائر، بوصفها بلدا مجهولا نسبيا لدى عامة الفرنسيين ممن لا يقيمون فيها، أمّا الشطر الآخر من العنوان فينفتح على العديد من الدلالات السيميائية، على اعتبار أنّ رحلة إلى الصحراء له وظيفة تفسيرية زاخرة بالمعاني الإيحائية (connotative)، فالسفر إلى الصحراء، قد يكون سفرا إلى المجهول، أو إلى الاتساع والامتداد، أو توجّها نحو شظف العيش وصعوبته، أو نحو الموت المحتوم.. إلى غير ذلك من المعاني المقصودة أو المحتملة. فهذا القسم من العنوان هو القسم المفسّر للقسم الأوّل والمشوّق لقراءة النص، خصوصا أنّه مكتوب لفائدة قراء بعيدين عن الصحراء، وربّما لم يسبق لهم أن رأوها رأي العين، لذلك فإنّ العنوان يمارس سحره وجاذبيته من خلال الإشارة إلى الجزائر، باعتبارها فضاء تراهن فرنسا الاستعمارية على إخضاعه لسلطانها، وإلى الصحراء بوصفها فضاء مجهولا لدى عامة الأوربيين، فتكون قراءة الرحلة دافعا لإشباع فضولهم عن هذا القسم من العالم.

فالعنوان إذن هو نص مركّز جدا، يعكس بتلميح شديد مضمون الرحلة، وهو كما يقول لوي هويك (Loe Hoek): "مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدلّ عليه وتعيّنه، تشير إلى محتواه الكلّي، ولتجذب جمهوره المستهدف"[3]. ومع ذلك فالعنوان –على أهميّته- ليس العتبة الوحيدة، لأنّه يبقى بحاجة إلى عناوين داخلية (intertitres)، لها وظيفة مكمّلة للعنوان الرئيسي، لأنّ العناوين الداخلية "هي أجوبة مؤجّلة لسؤال كينونة العنوان الرئيسي، لتحقّق بذلك العلاقة التواصلية بين العناوين (الداخلية والرئيسية) والنص، بانية سيناريوهات محتملة لفهمه"[4]، وهو ما فعله موباسان في رحلته حينما سرّب مضامينه السردية ضمن عشرة عناوين داخلية:

1. إلى بلاد الشمس.

2. البحر.

3. إقليم وهران.

4. بوعمامة.

5. ولاية الجزائر.

6. القبائل-بجاية.

7. الزرعيز (سبخة مالحة بمنطقة الجلفة).

8. قسنطينة.

9. من الجزائر إلى تونس.

10. نحو القيروان.

وهذه العتبات النصية يغلب عليها الاهتمام بالمكان، فهو يسيطر على تسعة أعشار العناوين، والخرق الوحيد حصل في العتبة الرابعة التي جاءت معنونة ببوعمامة، وهو ما يؤكد استثنائية هذا الرجل المقاوم، ومقدرته على التأثير في العقل الأوربي، بجعله يشعر أنّ الجزائر ليست مساحة جغرافية ممتدة الطول والعرض فقط، أو قطعة من الصحراء المترامية، ولكنّها أرض قادرة على إنجاب الرجال الذين لهم من الفاعلية والسحر ما يؤهّلهم لقيادة شعبهم ومواجهة الطغيان الدّاهم من وراء البحر، بالرغم من أنّ الكاتب رسم للشيخ بوعمامة صورة سوداوية كما سيأتي.

الشخصية الجزائرية وتلازم الدونية:

تفرّق الدراسات النقدية بين مفهومي الشخص (Personne) والشخصية (Personnage)، فالشخص هو عنصر فيزيقي من لحم ودم، أمّا الشخصية فكائن ورقي، يقول عبد الملك مرتاض: "يختلف الشخص عن الشخصية بأنّه الإنسان، لا صورته التي تمثّلها الشخصية في الأعمال السّردية"[5]، ومن هذا المنطلق نلاحظ أنّ موباسان كان يتحدّث في الظاهر عن أشخاص (Personnes) لهم وجودهم المادي التاريخي، ممّن صادفهم في رحلته إلى الجزائر، زعماء، أو قادة، أو تجارا، أو مقاومين، أو خونة... ولكنّه من وجهة أخرى حوّل أولئك الأشخاص إلى شخصيات ذات وظيفة سردية، وبالتالي أصبحت كل شخصية يأتي ذكرها في النص رمزا سيميائيا يمثل مجموعة قيم نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية، وهو ما يدفعنا إلى القول بأنّ الحديث عن (بوعمامة) و(الأمير عبد القادر) و(الفلاح) و(الجندي) وغيرهم، هو في الحقيقة تدليل على سمات الشخصية الجزائرية كما يتصوّرها الكاتب وليس كما هي موجودة في واقع الحال.

إنّ (بوعمامة) بكلّ ما يمثّله من رمزية دينية ووطنية في الوجدان الجزائري هو في نظر موباسان "ذاك المهرّج الشّبح الذي أفزع جيشنا في إفريقيا، ثمّ اختفى تماما حتّى رحنا نشكّ في وجوده... على أيّ حال لم يكن هذا الجوّال سوى رئيس عصبة قليلة العدد دفعتها المجاعة للثورة،لم يقاتل هؤلاء الناس إلا لسلب صوامع القمح أو نهب القوافل"[6]، فهو مقاتل من أجل الجوع والفقر لا يحمل أية قضية وطنية، وليس له أي مشروع سوى قطع الطريق وإرهاب الفرنسيين، وهذه الصورة السوداوية لا تمثّل صورة بوعمامة الشخص، ولا صورته كشخصية وطنية جزائرية فقط، ولكنّها صورة من وحي خيال الكاتب المقتنع على ما يبدو بما تروّجه السلطات الاستعمارية، التي تجرّم كافة القوى المناوئة للاحتلال، والمدافعة عن حقّها في الوجود.

ولا يمكن الادّعاء بأن الكاتب انتقد بوعمامة فقط لأنه اختار طريق المقاومة المسلّحة، ولكن الرحلة تكشف مثلا أنّ البرجوازي الجزائري الذي يوالي السلطة الاستعمارية لا يحق له انتقاد تلك السلطة، وإن فعل يواجه بالازدراء والاستخفاف، فمثلا لمّا "أشار البورجوازيان [جزائريان] إلى الأخطاء الفادحة التي يقترفها الحاكم، ضحك الجميع لذلك مستنكرين هذه الرعونة"[7]. فالكاتب –للأسف- تخلّى عن وظيفته النبيلة، وصار يردّد طروحات الساسة العنصرية المتعالية، حتى وهو يتحدّث عن عاملٍ جزائري بسيط في باخرة فرنسية تعطّل صوت صفارتها: "فجأة راح أحدهم يدعى (عبد القادر) يجأر[8] لاختفاء صوت الصفارة، وحلول ما يشبه صراخ الحيوان مكانها، كان صوتا رائعا يخرج من بطن مدخن لوحش ما"[9]، إنّ الحديث بهذا الشكل عن الشخصيات الجزائرية يعكس سادية دفينة –من الكاتب- تجاه الإنسان الجزائري، واقتناعا منه بالأيديولوجية الاستعمارية العنصرية، وهذا أخطر من القتل الممنهج على يد العسكر والجيش، لأنّه قتل للهوية، واستخدام لأداة نبيلة يفترض أنّها وسيلة للتقارب بين الشعوب وهي الأدب، وإلاّ كيف نفسّر تعميماته المؤذية في حق الشخصية الجزائرية؟!

يتحدّث موباسان في رحلته عن شخصية القاضي، وهو في العرف الجزائري -خلال القرن التاسع عشر- شخصية دينية، مرادف تماما للفقيه، لكنّه بتعميم واضح يقول: "قابلية القضاة لقبول الرشوة مضرب الأمثال وغير مبالغ فيها بتاتا"[10]، أمّا القاضي الفرنسي فشخصية نزيهة، "لأنّ رشوته غير ممكنة"[11]، هكذا يحسم موباسان رأيه؛ الفساد متجذّر في الجزائري، والنزاهة متأصلة في الفرنسي، لأنّ "العربي لا يحب تسديد الدين"[12]، يفضّل المماطلة بفوائد مرتفعة على التسديد، و"من يقول عربي يقول لص دون استثناء"[13]!! والسؤال المطروح: ألم يقابل الكاتب طوال رحلته جزائريا واحدا يستحق الثناء والذكر الحسن؟! يجيب الكاتب نفسه بتعميمه العنصري المعتاد: "شعب غريب، طفولي، ظل بدائيا كما في بداية العصور، يمرّ بالأرض دون أن يتعلّق بها أو يستقرّ فيها، لا يملك بيوتا باستثناء أقمشة مشدودة على عصي.."[14]، والحديث عن الرحيل المستمر للجزائري –في إشارة إلى سكان الجنوب من البدو الرحّل- له دلالته، فهو يريد إيهام القارئ بأنّ الشخصية الجزائرية لا تتعلّق بالأرض، وليس لديها روح الانتماء إلى الوطن، مرسّخا من وراء ذلك مقولة أنّ الاستعمار ضرورة لا يمكن للمستعمَر الاستغناء عنها.

لقد تحدّث الأستاذ مالك بن نبي في مقالة عنوانها (سيكولوجية الاستعمار)، عن الدوافع النفسية من وراء هذه الروح العدوانية تجاه الشعوب المستعمَرة، والنظرة الدّونية لها التي تتهمها بأنّها موسومة بعقدة التبعية (Complexe de dépendance)[15]، وبالتالي فإنّ التدخل الأجنبي يمسي (واجبا) تجاه هذا الشعب غير المؤهّل للتحديث والعصرنة إلا على يد الأجنبي المحتل، هكذا نظرت الأيديولوجية الكولونيالية لشخصية الشعوب المستعمرة، وهكذا ظل المثقفون من أمثال موباسان يردّدون ويروّجون.

هندسة المكان:

يعتبر المكان مكوّنا مهمًّا من مكوّنات الخطاب السردي، لأنه يمثّل الوسط الذي تجري داخله الأحداث، وتتحرّك في ساحته الشخصيات، يقول عبد الملك مرتاض "إنّ السّرد من دون حيّز لا يمكن أن تتم له هذه المواصفة، إنّه لا يستطيع أن يكونه ولو أراد"[16]، أمّا في الخطاب الرحلي كما في حالتنا هذه؛ فإنّ المكان يغدو البنية الأهمّ إلى جانب الشخصيات، لأنّ أهم دواعي الأدب الرحلي هو استكشاف الإنسان، ومعاينة المكان الذي يعيش فيه، ولهذا السبب احتلّ موقع الصّدارة، فتكرّر ذكره في العنوان مرتين (الجزائر- الصّحراء)، وفي العناوين الداخلية تسع مرّات من أصل عشرة عناوين، أمّا في المتن فإنه احتل موقعا مهمّا، وربّما كان المكوّن السردي الذي استأثر بأوفر حظ من التوصف.

إنّ عنوان الرّحلة –إذن- وعناوينها الداخلية تفصح أنّنا أمام رحلة تستكشف المكان في المقام الأول، والمكان فيها ليس مكانا شعريا، ولا متخيّلا، ولا فلسفيا، ولا أسطوريا... ولكنّه فضاء واقعي، يتجلّى في مظهر جغرافي يصف الطول والعرض والارتفاع، كما يتجلّى في مظهر خلفي يتمثّل المكانَ عن طريق الأدوات اللغوية الدالة عليه بصورة غير مباشرة، نحو سافر وخرج وركب القطار وأبحر.. فهذه الأدوات تحيل على عوالم لا حدود لها[17]، ولذلك سنكتفي بمتابعة المظهر الأول فقط، ومقاربته من الوجهة التقنية-الدلالية لكشف البنية العميقة، من دون النظر إليه من الوجهة الجمالية.

أولا: المدينة الجزائرية

تصف الرحلة مدن الجنوب الجزائرية بأنّها "تجمّعٌ سكّاني، تكدّسُ مكعّباتِ وحلٍ؛ جَفّفتها الشّمس، تلتصق كلّ أكواخ الطّين الصلب المربّعة هذه ببعضها، تاركة حيّزا من الخطوط العشوائية فقط، يشكّل ما يشبه رواقا ضيّقا، وأزقةً كالممرّات التي يخلّفها عبور المواشي المنتظم"[18]، كما تصف مدينة (سعيدة) الواقعة على أعتاب الصحراء وصفا كاريكاتوريا ساخرا، فهي: "المدينة الصغيرة في مكان سحيق تحيط بها تلال جرداء. هناك نهر صغير، يمكن للمرء أن يعبره وعيناه مغمضتان يسقي حقول الناحية التي تنبت فيها كروم جميلة"[19]. فالمدينة الجزائرية مدينة سلبية، غير ملهمة، لا تتوفّر على أدنى شروط الراحة والعيش الكريم، مدينة مبنية بطريقة فوضوية تعكس -ربما- عقلا فوضويا لا يفكّر بطريقة سليمة، هذا ما يمكن استنتاجه من توصيف الكاتب للمدينة الجزائرية، الذي لا يفوّت الفرصة من دون أن يذكّرنا بصورة (مرسيليا) المدينة الفرنسية التي تركها وراءه: "كانت مرسيليا تحت شمس مشرقة في يوم صيفي تنبض بالحياة، كما لو أنها تضحك بمقاهيها الفسيحة المزيّنة بالأعلام وخيولها المزيّنة بقبعات من القش، كأنها في موكب تنكّري، وبأهلها محدثي الضجة والمنهمكين في أعمالهم"[20].

ثانيا: البيت الجزائري:

للبيت الجزائري صورة سلبية منفّرة، فهو لا يساعد على استقرار قاطنيه، وليس وسيلة راحة وإلهام كما البيت الأوربي، هكذا ينظر موباسان إلى البيت الجزائري، من دون مراعاة للفوارق بينه وبين البيت الأوربي، على مستوى الطبيعة، والمجتمع، والبنية الثقافية والدينية.. "تشعرني رؤية الشُّقة التي يقطنونها منذ ثمانية عشر عاما بالغثيان والسّخط، أهذه هي الحياة؟! أربعة جدران، بابان، نافذة، سرير ومنضدة، هكذا إذن، سجن! سجن! كلّ مسكن نقيم فيه طويلا يصبح سجنا"[21].

كما يقدّم وصفا مفصّلا للخيمة الصحراوية، نافيا عنها صورتها الإيجابية التي يحتفظ بها الأوربي في مخيّلته: "عندنا اعتقاد شائع أنّ الخيام العربية بيضاءُ ساطعةٌ في الشّمس، بينما هي على النّقيض؛ بُنِّيَةٌ متّسخة ومشطّبة بالأصفر، كما يبدو قماشها السّميك المكوّن من وبر الجمال والماعز خشنا. الخيمة منخفضة جدا، ولا يكاد يقف المرء داخلها، واسعة جدا، وتسندها أعمدة بشكل عشوائي، كلّ جوانبها مرتفعة، ممّا يتيح مرور الهواء تحتها بسهولة، رغم الاحتياطات المتّخذة تظل الحرارة مرهقة خلال النّهار في بيوت الكتّان هذه، غير أنّ قضاء الليل فيها ممتع، وننام بشكل رائع على سجّاد (جبل عمّور) السّميك والجميل، رغم الحشرات التي تعشّش فيه. يشكّل السّجاد مظهر الترف الوحيد بالنسبة لأغنياء العرب، يتمّ تكديسه بعضه فوق بعض حتى يصبح ككومة، يكنّ له الجميع احتراما كبيرا، ينزعون أحذيتهم ليمشوا فوقه، كما عند دخول باب المسجد"[22].

لكن السّارد لا يستطيع أن يخفي إعجابه بقصر الباي في قسنطينة، بوصفه أحد أهم مظاهر العمارة الجزائرية، حيث يقول: "ها نحن أمام قصر الحاج أحمد، أحد أكمل نماذج الهندسة المعمارية العربية كما يقال، كلّ المسافرين احتفلوا به، قارنوه ببيوت ألف ليلة وليلة، ما كان للقصر أن يكون جديرا بالاهتمام لو لم تعطه الحدائق الداخلية تلك الميزة الشرقية الجميلة"[23]، فجمال المبنى يفرض نفسه على الناظر، فلا يستطيع إلاّ أن يحكم له بذلك، غير أن موباسان –جريا على قاعدته في تحقير كلّ ما هو جزائري- لا يعبّر عن إعجابه الشخصي بالقصر، ولكنّه ينسبه إلى غيره، كأنّ اعترافه بذلك يعني تنازلا للشعب الذي ظلّ يتّهمه بالبدائية والتخلّف، فيستخدم تعبير: "كما يُقال" و"كلّ المسافرين احتفلوا به، قارنوه.."، لينحدر في نهاية الوصف إلى الاستخفاف والاستهانة بمن قام ببناء هذا القصر، مدّعيا في تعبير لا يخلو من العنصرية أنّ المواد التي شيّد بها القصر مسروقة ومنهوبة فيقول: "يلزمنا مجلّد لوصف شراسة عمل ذلك الشخص الذي شيّده بمواد نفيسة مسروقة ومنزوعة من المساكن الغنيّة في المدينة وما يحيط بها"[24]

ثالثا: المساجد وأضرحة الأولياء:

يسلّم موباسان بأنّ الجزائري يحرّكه دينه الإسلامي، فهو يقوم بكلّ ما يقوم به انطلاقا من قناعته الدينية: "الدين أكبر ملهم في تصرفاتهم، وأرواحهم، ومحاسنهم، ومساوئهم، فبالدين نجدهم طيّبين، شجعانا، حنونين، ومخلصين"[25]، وهذا الحكم يعتبر حقيقيا إلى حد كبير، نجد أثره في الأماكن التي يعتبرها الجزائري ذات قدسية دينية، فإنّها تحظى بالعناية التامة، والاهتمام الكامل، من ذلك مثلا المساجد وأضرحة الأولياء الصالحين.

لم تبد الرحلة اهتماما بالمساجد الجزائرية على كثرتها وأهميّتها التاريخية، ما عدا وصفا للمسجد الكبير بالجزائر العاصمة بدا عابرا، أو هكذا أريد له أن يكون: "بناء بسيط جدا، جدرانه مطلية بالجير، والأرضية مغطّاة بالسّجاد السّميك، يدخل العرب إلى المسجد بحيوية، أرجلهم حافية، وأحذيتهم بأيديهم، يصطفون في صفوف طويلة ومنتظمة.."[26]، غير أنّ الرحالة لم يخف إعجابه بمسجد عقبة في تونس، مع إصرار واضح على أنّه بني من بقايا آثار رومانية: "مبنى ضخم وثقيل، ثابت بدعائم ضخمة من الكتل البيضاء الثقيلة والهائلة، جمالها مبهم ومتوحش، عندما دخلناه ظهرت لنا أولا ساحة رائعة مغلقة برواق مزدوج يسند خطّين أنيقين من الأعمدة الرومانية والبلدية، حسبنا أنفسنا وسط دير إيطالي جميل"[27]، لكن موباسان سرعان ما يتدارك إعجابه بالمسجد بالقول: "شيّدوا بيت ربّهم، بيتا من القطع المنزوعة من المدن المنهارة"[28]، وهو تعبير صريح بأنّ المساجد إنّما بنيت من الآثار القديمة، خصوصا الآثار الرومانية، وهو ما يعكس أمرين:

أحدهما: التأكيد على التواجد الروماني في المنطقة (تونس والجزائر)، مما يمكن أن يكون مبررا للتواجد الفرنسي، على اعتبار أنّ الفرنسيين يرون في أنفسهم امتدادا لهم.
ثانيهما: اتهام العرب بعدم احترام الآثار القديمة، ومنجزاتها العمرانية، بما يمثّل إساءة إلى الإنسان العربي في هذه المنطقة.

ويخصص (موباسان) حيّزا لا بأس به للحديث عن أضرحة الأولياء ومدى تعلّق الجزائريين بها (خصوصا النساء)، لاعتقادهم أنّها جالبة للحظ، ومخلّصة من الشرور كافة. ويعتبر ضريح الولي (عبد الرحمن الثعالبي) أهم أضرحة مدينة الجزائر، من حيث مكانة صاحبه، وشكل الضريح، وطريقة تزيينه، وهو ما وصفه (موباسان) حين زيارته له: "النساء جالسات هنا بجانب القبر المزيّن، الشبيه إلى حدّ ما بالسرير الملوّن والمغطّى بقماش حريري والرايات والهدايا التي جلبت له... ساعات من كلّ الأحجام تتحرّك، تسمع دقات الثواني لتعلن الوقت، رايات مقدّسة، ثريّات من كلّ الأشكال، من الجلد والكريستال، الثريّات عديدة لدرجة أنّه لا يمكن رؤية السقف.. الجدران مزيّنة بزخارف أنيقة ورسومٍ لطيفة يطغى عليها اللون الأخضر والأحمر، البلاط مغطّى بالسجاد، ينفذ ضوء النّهار عبر ثلاث نوافذ مقوّسة، وتهيمن واحدة على الآخرين"[29]

تقنية الريبورتاج (Reportage):

بالرغم من تميّز رحلة موباسان برقي أسلوبي ودقة في التوصيف، وأدبية عالية في السرد، إلاّ أنّ الكاتب يلجأ من حين لآخر إلى ما يمكن تسميته بتقنية الريبورتاج، وهي تقنية معروفة في العمل الصحافي، تقوم على التغطية الإعلامية لحدث ما، ونقل تقرير خبري للمتلقي يوجز بدقة تفاصيل ذلك الحدث، من دون الحرص على التأنق في الأسلوب، والتجويد في العرض، لأنّ "أساسه الحرص على نقل مجريات الحياة"[30]، فمن ذلك أحدها عن سجناء إسبان فرّوا من الشيخ بوعمامة: "المعلومات الوحيدة المؤكّدة ما حصلنا عليه من السّجناء الفارين من بوعمامة، استطعت أن أتكلّم مع أحد هؤلاء السجناء بمساعدة مترجم، هذا ما حدث له: كان المدعو (بلاس روجو بلاسيري) يقود في مساء العاشر من حزيران موكبا مؤلفا من سبع عربات، حين وجد في الطّريق عربات أخرى محطّمة، مسجّى أصحابها قتلى بين العجلات، واحد منهم كان ما يزال على قيد الحياة، شرعوا في علاجه لكنّ مجموعة من العرب انقضّت عليهم، سلّم الإسبان أنفسهم كونهم لا يملكون إلاّ بندقية واحدة.."[31]

إنّ هذا المقتطف من الرحلة يشبه تماما ريبورتاجات التحقيقات الصحافية، وربّما كان بالتقرير العسكري أشبه، فالمؤلّف كان في بعض مراحل حياته مجنّدا في البحرية الفرنسية، فلقد تخلّى عن الكثير من التعبير الشاعري الذي ميّز نص الرحلة مفضّلا عرض المادة الحدثية عبر هذا (الريبورتاج) الراصد لحادثة فرار سجناء إسبان من (الشيخ بوعمامة)، و يلجأ المؤلف إلى هذا النمط السّردي بسبب ما توفره الوظيفة المرجعية (Fonction Référentielle) من محمول معرفي، وهي التي ترتكز على أهمية الجانب الدلالي للرسالة، لأنّ الكتابة حينما تقوم على الحس الريبورتاجي تجعل الحدث في بؤرة اهتماماتها، من دون الاحتفاء كثيرا بالوظيفة الوظيفة الإنشائية (Fonction Poétique) التي تتكئ على ديناميكية اللغة. هذه الوظيفة التي تتراجع فاسحة المجال أمام الرسالة (Le Message) كي تسلّط الضوء على حدث ما، وتعبّر عنه تعبيرا يعتمد على دقة الوصف.

إنّ توظيف الريبورتاج في النص الرحلي اعتمد على عملية الإلصاق (Collage)، من خلال خلق نص أدبي ذي بعد جمالي يستعين من حين لآخر بتقنية الريبورتاج ليكون أقرب من الواقع، وأقدر على تصوير أحداثه كما عايشها المؤلّف، يساعده في ذلك قربه من العسكر ومرافقته إيّاهم في حملتهم على الجنوب الجزائري، ممّا مكّنه التواجد في أماكن حسّاسة وفي ظروف دقيقة للغاية، فاستطاع أن يحاور السّجناء، ويحصّل منهم معلومات عسكرية، كما كانت له فرصة الاطّلاع على بعض الوثائق السرّية كتلك المراسلات التي كانت بين العسكر، كما في قوله: "أشارت الرسائل الرسمية إلى وجود بوعمامة في مكانين يبعدان مئة وخمسين كيلومترا عن بعضهما في الوقت نفسه. استغل القائد حرّية التصرّف المطلقة التي منحت له واتّجه إلى بعد اثني عشر كيلومترا من غريفيل (Grey ville)، في الطريق قتل العميد برينجار (Bringeard)، الذي أُرسل مع عدد قليل من الرجال فقط إلى قلب بلد ثائر لتمديد خطوط الاتصالات البرقية.."[32]

تطرح الظروف التي كان الكاتب يتواجد فيها العديد من التساؤلات، فهل الفنان المبدع الذي ينشد القيم الإنسانية النبيلة من قبيل الحرية والعدالة والمساواة يمكن أن توفّر له كلّ تلك التسهيلات كمرافقة الجيش والاطّلاع على وثائقه السرية؟ لقد كان (موباسان) يوثق الغزو الفرنسي للجزائر متبنّيا طروحاته، من ذلك تعقيبه على مراسلة بعث بها أحد الملاّك الفرنسيين حول حريق أتى على مزارعه متهما الجزائريين: "رأيت بأمّ عيني في ليلة واحدة النار تندلع في ثماني نقط مختلفة، وسط الغابة على بعد عشرة كيلومترات من المساكن، من المؤكّد أنّنا لو قمنا بمراقبة القبائل بشكل نهائي لتوقّفت الكارثة التي تحدث كلّ أربع أو خمس سنوات بشكل نهائي"[33]، فالمؤلّف يدعو إلى تشديد القمع على السكان الجزائريين جميعا نظير قيام بعضهم بحرق أراض يمتلكها الفرنسيون، مع العلم أنّنا نتحدّث عن السنوات الأولى للاحتلال، وبالتالي فإنّ كافة الأراضي المملوكة للفرنسيين هي في الحقيقة أراض مغصوبة بالقوة والقهر.

تمكّن تقنية الريبورتاج السّارد من أن يعبّر بصراحة ووضوح عن موقفه، ومن ثمّ عن دوره بوصفه (بوقا) للإدارة الاستعمارية، فالتعبير المباشر الذي يميّز السرد الريبروتاجي يتيح له التخلّي عن الكثير من الدبلوماسية، والاصطفاف إلى جانب السلطة الاستعمارية، وبالتالي فإنه لا يبدي أيّ تعاطف مع البلاد المستعمرة.

الخاتمة:

يمكننا القول بعد هذا العرض أنّ الاحتلال الفرنسي للجزائر لا تتحمّل مسؤوليته الطبقة السياسية الحاكمة في فرنسا يومئذ، ولا حتى أصحاب النفوذ من الإقطاعيين والاقتصاديين الذي انتفعوا بالخيرات الجزائرية فحسب، كما لا يمكن أن يرجع ذلك إلى العسكر الفرنسي القوي آنئذ، ولكن للمثقفين نصيبا من المشاركة في استعباد البلاد المحتلة وتبرير طروحات الساسة والعسكريين ومختلف المنتفعين من الاحتلال، وهو ما يتمثل في الأدب الكولونيالي الذي أنتجته المرحلة، حيث أصبح الكاتب أسير قوى ظالمة لا تؤمن بحق الشعوب الضعيفة في الحياة الحرة والعيش الكريم، وهو ما حوّل الأدب إلى أداة لممارسة التضليل والدعاية تجاه تلكم الشعوب.

علّمتنا الحياة أن الأدب لا يكون إلا إنسانيا، والأديب لا يكون إلا منحازا للمستضعفين والمحرومين، بل هو لسانهم الناطق في وجه الظلم والشر، وبالتالي لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نلتمس الأعذار لـ(موباسان) في رحلته التي جانب فيها الحقيقة عند حديثه عن الجزائر أرضا وشعبا وثقافة، ففي كامل رحلته إلى الجزائر لم يبد تعاطفا مع ما يعانيه الجزائريون من القتل والتهجير والفقر، ولكنه لا يخفي تعاطفه مع الأوربيين الذين تركوا ديارهم وجاؤوا إلى الجزائر يقاسمون أهلها أرضهم وعيشهم: "لم أر شيئا أكثر إيلاما من هذه السيّدة المسنة القادمة من الألزاس والمرميّة على هذه الأرض المحروقة"[34]، وهو ما يدفع إلى القول بأن السارد لم يكن ينظر إلى البلاد العربية بعين الرحالة المحايد، يبغي استكشاف البلاد والتعرف عليها، وإنّما كان ينظر إليها بتعالي الكولونيالي، الذي يستولي على البلاد، ويطارد أهلها المقاومين منهم وحتى الخانعين، ثمّ يمنّ عليهم ببعض إنجازاته التي هي في الأصل لمصلحة المعمرين الذين جلبهم الاحتلال معه.

الهوامش

[1] غي دو موباسان (Guy de Maupassant): كاتب فرنسي (1850م-1893م)، رافق الجيش الفرنسي في حملته على الجزائر سنة 1881م، فكتب إثر ذلك هذه الرحلة.

[2] د. صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص ص279.

[3] عبد الحق بلعابد: عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص) ص67.

[4] المرجع السابق ص127.

[5] د. عبد الملك مرتاض: تحليل الخطاب السردي ص126.

[6] غي دو موباسان: رحلة إلى الجزائر- إلى بلاد الشمس ص23.

[7] المصدر السابق ص11.

[8] يجأر: جَأَرَ، كمنع، جَأْراً وجُؤَاراً: رَفَعَ صَوْتَهُ بالدُّعاءِ، وتَضَرَّعَ، واسْتَغَاثَ، وجأر الثور: صاح. انظر
القاموس المحيط (جأر).

[9] السابق ص10.

[10] السابق ص70.

[11] السابق ص71.

[12] السابق ص94.

[13] السابق ص65.

[14] السابق ص67.

[15] مالك بن نبي: في مهب المعركة ص26.

[16] عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية ص154.

[17] عن المظهر الجغرافي والمظهر الخلفي انظر المرجع السابق ص143 وما بعدها.

[18] غي دو موباسان: رحلة إلى الجزائر ص91.

[19] المصدر السابق ص17.

[20] السابق ص10.

[21] السابق ص7.

[22] السابق ص66.

[23] السابق ص100.

[24] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

[25] السابق ص101.

[26] السابق ص32.

[27] السابق ص128.

[28] السابق ص129.

[29] ص107.

[30] عدنان بن ذريل: النقد والأسلوبية ص245

[31] غي دو موباسان: رحلة إلى الجزائر ص27.

[32] المصدر السابق ص24.

[33] السابق ص58.

[34] السابق ص19.

= = = = = = = = = =

قائمة المصادر والمراجع:

1. د. صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1992م.

2. عبد الحق بلعابد: عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، /منشورات الاختلاف (الجزائر)، 2008م، ط1.

3. د. عبد الملك مرتاض: تحليل الخطاب السردي- معالجة تفكيكية سيمائية مركّبة لرواية زقاق المدق،ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995م.

4. د. عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية -بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1419هـ 1998م.

5. عدنان بن ذريل: النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1989م.

6. غي دو موباسان: رحلة إلى الجزائر- إلى بلاد الشمس، ترجمة نادية عمر صبري، ورد للطباعة والنشر، دمشق، 2007م، ط1.

7. مالك بن نبي: في مهب المعركة- إرهاصات الثورة، دار الفكر، الجزائر، 1412هـ 1991م، ط1.

D 27 كانون الأول (ديسمبر) 2011     A حبيب بوزوادة     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 67: هارد لك (*) يا شباب

لا وقت للحلم هنا

شعرية المكان في ثرثرة فوق النيل